دين الوظيفة السياسية: الديانة الرائيلية: حين تصنع التكنولوجيا دينًا عالميًا جديدًا

من عبادة الإله إلى طاعة الكائنات الفضائية: ليست كل الأديان قديمة الجذور، ولا كل العقائد تخرج من صحراء النبوءة أو صحوة الضمير. فبعضها يولد في عصر الحداثة، في لحظة صراع بين العلم والدين، ليقدّم نفسه كحلّ ثالث: دين يلبس قناع العلم، ويتوسّل التقنية، ويستدعي خطاب "العقلانية"، لكنه يؤدي الوظيفة ذاتها التي أدّتها الأديان القديمة: السيطرة، التبشير، تنظيم الولاء، وبناء نظام طاعة.

الديانة الرائيلية، التي بدأت في سبعينيات القرن العشرين، هي تجسيد ناصع لهذا النمط: دين مصنوع بوعي تام، يخاطب إنسان ما بعد الحداثة، ويوظف رمزية الكائنات الفضائية لا كخيال علمي، بل كعقيدة سياسية مغلّفة بغطاء علموي.

عقيدة من خارج الأرض: النشأة المُصطنعة

الرائيلية لا تدّعي اتصالًا بالسماء، بل بالكواكب الأخرى. مؤسسها، كلود فوريلون (الذي أطلق على نفسه اسم "رائيل")، زعم أن كائنات فضائية تُدعى "الإلوهيم" تواصلت معه عام 1973، وكلفته بنقل رسالة للبشرية مفادها أن جميع الأديان على الأرض ناتجة عن تفسيرات خاطئة لزيارات فضائية قديمة.
في زعمه، هذه الكائنات خلقت البشر عبر تقنيات الاستنساخ، وترغب اليوم في أن "يبلغ الإنسان النضج" ليستحق اللقاء بها. وما بين هذا التبشير الكوني، بدأت تتشكّل طقوس، ومفاهيم، وهرمية طاعة، وجماعة مغلقة، تُعيد إنتاج ما فعلته الأديان السياسية من قبله.

الدين الجديد كوظيفة سياسية: طمس الحدود وتمييع الهويات

الرائيلية لا تخفي هدفها السياسي تحت ستار اللاهوت. هي تعلن سعيها إلى بناء "سفارة" على الأرض لاستقبال الإلوهيم، وتدعو إلى نظام عالمي موحّد بلا أديان تقليدية، ولا هويات قومية، ولا فروقات دينية.
إنها دعوة لتأسيس نظام عالمي "عقلي"، لكنه خاضع بالكامل لرسالة خارجة عن إرادة الإنسان. هنا، تظهر الوظيفة السياسية جليّة: تفكيك الأديان والهويات باسم العقل، وتأسيس خضوع جماعي لمركز روحي/علمي جديد، يُشرعن سلطة القائمين على العقيدة.

الطقوس والتقنيات: حين تصبح التكنولوجيا طقسًا دينيًا

الرايليون لا يصلّون ولا يصومون، لكنهم يمارسون طقوس "النقل الخلوي"، ويدعون إلى الاستنساخ الجيني كطريق إلى الخلود، ويؤمنون أن العلم سيعيد خلق الإنسان ويمنحه الحياة الأبدية.
هذا التقديس للتقنية ليس علمًا، بل إيمانيات علموية، حيث تتحول أدوات العلم إلى رموز مقدسة، وتُستبدل الميتافيزيقا بالإلكترونيات، مع الحفاظ على نفس البنية: قائد يُوحي، جماعة تُطيع، وشريعة تُشرّع.

مجتمع مغلق وهرمية طاعة

وراء خطاب السلام والحب، يوجد نظام ديني محكم، له درجات ورتب، ونظام عضوية، ونشرات، وبيانات، ومهرجانات طقسية.
الدين الجديد لم يأت ليحرر الإنسان، بل ليحشد الولاءات في بنية طاعة جديدة، تُحاكي أنظمة الأحزاب المغلقة، والحركات القومية، والأديان التقليدية التي تدور حول الزعيم/النبي.

خاتمة: الدين كمنتج ذكي للقرن الحادي والعشرين

الرائيلية هي نموذج واضح على أن الدين، حين يُصنع لهدف سياسي، لا يحتاج إلى معجزات، ولا إلى أساطير قديمة. بل يكفي أن يُستبدل الوحي بالكائنات الفضائية، ويُلبس الخطاب لباس العلم، لتُعاد صياغة البنية القديمة للدين في هيئة جديدة.
إنها ليست عقيدة خلاص، بل مشروع طاعة عصري، يتجاوز القوميات، ويطمس الهويات، ويبشر بدين كوني واحد، يقوده "نبي" جديد، يخاطب الناس باسم العلم، ويدعوهم للانتماء لسلطة قادمة من خارج الأرض.

سلسلة: دين الوظيفة السياسية

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.