الحروب الأمريكية: الشيشان: العلاقة المعقّدة بين واشنطن والانفصاليين

رغم أن الحرب الشيشانية بدت في ظاهرها نزاعًا داخليًا بين موسكو وجمهورية انفصالية صغيرة، إلا أن خيوطها امتدّت إلى عواصم كبرى، وعلى رأسها واشنطن. فلم يكن موقف الولايات المتحدة من النزاع محض تعاطف إنساني مع المدنيين، بل كان جزءًا من صراع جيوسياسي أكبر هدفه إضعاف روسيا من الداخل وإشغالها في أطرافها. وبين خطاب حقوق الإنسان والدعم الخفي، تكشّفت أوجه متعددة لعلاقة ملتبسة بين واشنطن والحركات الانفصالية في القوقاز.

بين تفكك الاتحاد السوفييتي وصعود النزعات الانفصالية

في مطلع التسعينيات، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، شهدت مناطق كثيرة من روسيا حركات انفصالية، كانت أبرزها في الشيشان. فبين عامي 1994 و2000، خاضت روسيا حربين دمويتين ضد المقاتلين الشيشان الذين طالبوا بالاستقلال، مدعومين بخطاب دولي يتحدث عن "حق تقرير المصير" و"مكافحة الإبادة". لكنّ ما خفي من هذه الحروب كان أعقد بكثير من مجرد صراع محلي.

الدعم غير المعلن: أدوات ناعمة وواجهات إنسانية

رغم أن الولايات المتحدة لم تُعلن دعمها الرسمي للانفصاليين الشيشان، إلا أن تقارير متعددة أشارت إلى:

  • نشاط منظمات أمريكية في تقديم دعم لوجستي وحقوقي لقيادات شيشانية في المنفى، خصوصًا في أوروبا.
  • ظهور رموز الانفصال في مؤتمرات دولية بتنظيم أمريكي، وهو ما منَحهم شرعية سياسية.
  • تساهل أجهزة أمريكية مع عبور تمويلات وأشخاص بين تركيا والشيشان عبر القوقاز، في وقت كانت روسيا تخوض معارك طاحنة هناك.

شيشنة الصراع الإسلامي: من أفغانستان إلى القوقاز

في نظر بعض صانعي القرار الأمريكي، كانت الشيشان استمرارًا لحرب "أفغانية" جديدة، ولكن هذه المرة داخل الفضاء الروسي نفسه. فبعد أن استخدمت واشنطن الإسلاميين في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي، بدا أن الحركات المسلحة في الشيشان تُوظَّف مجددًا لإضعاف روسيا:

  • ظهرت شخصيات قاتلت سابقًا في أفغانستان ضمن الميدان الشيشاني.
  • تم تضخيم الطابع "الجهادي" للصراع لربطه بأجندات إقليمية، ثم لاحقًا تبرير العنف الروسي.

مفارقة الحرب على الإرهاب: حين تبادلت موسكو وواشنطن الأدوار

بعد أحداث 11 سبتمبر، بدأت موسكو تتبنّى خطاب "مكافحة الإرهاب" لتبرير سحقها التام للانفصاليين، ووجدت واشنطن نفسها في وضع حرج:
فهي لا تستطيع معارضة روسيا علنًا، لكنها لا تريد أيضًا الاعتراف بأن "التمرد الشيشاني" هو جزء من نفس الظاهرة التي تحاربها. وهنا تحوّل دعم الحركات الانفصالية إلى دعم حقوقي رمزي، مع استمرار التغطية الإعلامية الغربية المنحازة في إظهار روسيا كقوة قمعية لا تحترم الأقليات.

بين المصالح والطوائف: لماذا تدخّلت أمريكا فعلًا؟

لم يكن الصراع في الشيشان مجرد مسألة حقوق أو انفصال، بل كان في جوهره:

  • اختبارًا لقدرة موسكو على السيطرة على حدودها بعد السوفييت.
  • فرصة لواشنطن لاختراق الخاصرة الرخوة لروسيا عبر القوقاز الغني بالطاقة.
  • جزءًا من سياسة تطويق النفوذ الروسي وإشغاله بحروب داخلية.

الدروس التي فهمتها روسيا لاحقًا

ربما كانت التجربة الشيشانية أحد أهم دروس موسكو في فهم نمط الحروب غير المباشرة، والاعتراف بأن واشنطن قد لا ترسل جيوشًا، لكنها تبني "ملفات" و"حركات" و"روايات". وهو ما جعل الكرملين لاحقًا أكثر شراسة في مناطق النفوذ الحيوي، من أوكرانيا إلى جورجيا.

خلاصة

لم تكن واشنطن بعيدة عن حرب الشيشان، وإن تظاهرت بذلك. فبين دعم ناعم وانحياز إعلامي وتوظيف لقضية "الحقوق"، لعبت الولايات المتحدة دورًا مركبًا في نزاع استُخدم لتصفية الحسابات مع روسيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وما تزال الشيشان حتى اليوم شاهدًا حيًا على كيف يُدار الصراع الدولي من خلف ستار الانفصال والحرية.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡