الانفصال المتسارع: تباين مواقف الأنظمة العربية وشعوبها في حرب غزة

في خضم العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، تتسارع ديناميات الشرخ بين الشعوب العربية وأنظمتها، لا بفعل المواقف المعلنة فحسب، بل بما يُكشَف من انكشافٍ أخلاقيّ وسياسيّ متصاعد. إذ لم تعُد الفجوة بين الإرادتين الشعبية والرسمية مجرّد تباين مواقف، بل صارت صراع سرديات، يُخاض على كل جبهة: في الإعلام، وفي الشارع، وفي المحافل الدولية.

حكومات صامتة أمام الدماء… ناطقة عند إدانة المقاومة

منذ اندلاع حرب غزة الأخيرة، اختارت معظم الأنظمة العربية التموضع في الهامش الرمادي، مكتفية ببيانات متكرّرة عن "القلق"، أو "الدعوة إلى التهدئة". لكن المفارقة أن هذا الحذر المزعوم سرعان ما يتحوّل إلى فصاحة سياسية عند إدانة الردّ الفلسطيني أو التحذير من "الانجرار وراء التصعيد". ما يُفهم منه ضمنيًا أن الضحية مُطالبة بضبط النفس، فيما يُترك المعتدي يعيث فسادًا بلا حساب.

هذا الخطاب الرسمي لا يعبّر عن موقف سياسي فقط، بل يكشف الخلل العميق في بوصلة الولاء. إذ تبدو كثير من الأنظمة أكثر انزعاجًا من صور "المقاومة المسلحة" في غزة، منها من صور المجازر بحق الأطفال.

الشارع العربي: بوصلته لم تنكسر

على النقيض، شهدت الشوارع العربية، رغم القمع والرقابة، موجات غضب جماهيري غير مسبوقة. تنوعت بين تظاهرات واسعة، ومقاطعات شعبية، ومواقف ثقافية وإعلامية جريئة. وبرزت مجددًا لغة الشعوب الأصلية في توصيف الصراع: احتلال، مقاومة، تطهير عرقي، نفاق دولي.

هذا الحضور الشعبي، لا يعكس فقط تعاطفًا إنسانيًا، بل إدراكًا عميقًا لطبيعة المعركة، وأين تقف كل جهة منها. وهو ما يُحدث صدمة مضاعفة للأنظمة التي تجد نفسها في موقف الدفاع، عاجزة عن تبرير موقفها الباهت أو المتواطئ.

ازدواجية الخطاب: دعم نظري وممارسات مناقضة

تزعم بعض الأنظمة دعمها "للحقوق الفلسطينية" في المحافل، بينما تُسهّل مرور السفارات الإسرائيلية، أو تُدين المقاومة في بيانات رسمية، أو تتعاون أمنيًا ضمن ترتيبات دولية. هذه الازدواجية لا تمرّ دون أثر، إذ تتراكم في وعي الشعوب كدليل على زيف الادّعاءات، وترسّخ قناعة أن القضية تُستخدم فقط كأداة للاستهلاك الداخلي أو كورقة تفاوضية مع الغرب.

غزّة كشفت هشاشة "الخطاب السيادي"

حرب غزة الأخيرة عرّت زيف كثير من الشعارات الرسمية حول "السيادة"، و"القرار الوطني المستقل"، و"المصلحة القومية". إذ تبيّن أن كثيرًا من الأنظمة تتحرّك داخل هامش مرسوم أمريكيًا، ولا تملك حريّة اتخاذ موقف مستقلّ دون حسابات تتعلق بالمعونة أو العلاقات مع واشنطن وتل أبيب.

في المقابل، أظهرت المقاومة الفلسطينية قدرة على فرض شروط ميدانية، وصناعة وعي عالمي، وتحدي السردية الغربية، وهو ما زاد من إحراج الأنظمة التي لم تعد تملك لا السلاح ولا الخطاب.

الشعوب لم تعد تنتظر التمثيل الرسمي

الأهم أن الشرخ الحالي ولّد حالة تجاوز عفوي للنظام الرسمي. فالشعوب لم تعُد تنتظر المواقف الرسمية، بل باتت تبني أدواتها البديلة: مقاطعة اقتصادية، حملات إلكترونية، دعم مالي مباشر، بل وحتى رواية إعلامية شعبية. وكلما زاد الفارق بين ردود الفعل الرسمية والغضب الشعبي، كلما ترسّخ وعي بأن الأنظمة باتت جزءًا من العائق لا من الحل.

خاتمة

ما تفرزه حرب غزة اليوم ليس فقط مأساة إنسانية جديدة، بل فرزًا سياسيًا عميقًا داخل العالم العربي. الشعوب تقول كلمتها بشكل مباشر، أما الأنظمة، فإما أن تتهرّب أو تراوغ أو تقمع. ومع كل مجزرة تمرّ، تزداد الفجوة، ويتصدّع الغطاء، ويقترب يوم يُسأل فيه الجميع: من أين لكم هذه الشرعية؟

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡