
بين الخطر الخارجي والخوف من الداخل
منذ عقود، تبنّت معظم الأنظمة العربية خطاب "الخطر الخارجي" كمبرر لتقييد الحريات وتوسيع صلاحيات الدولة الأمنية. لكن الحقيقة أن هذا العدو الخارجي لم يكن غالبًا سببًا في إعادة هندسة الأولويات، بل مجرد لافتة. فما إن يُهدد النظام داخليًا، حتى يُكشَّر عن أنيابٍ حقيقية، تُوظَّف فيها كل أدوات القمع والسيطرة والرقابة.
ولعلّ الحرب على غزة خير مثال؛ إذ رأينا كيف استُنفرت الأنظمة العربية لاحتواء الشارع لا لمواجهة العدوان. فتم حظر التظاهرات أو تقنينها، ومنع إرسال المساعدات الشعبية، ومراقبة الخطاب الإعلامي، وتحذير المنابر الدينية من التصعيد، كما لو أن الخطر الحقيقي قادم من الحشود لا من القنابل.
الشرعية الغائبة.. والهاجس المزمن
أنظمة لا تستند إلى شرعية حقيقية، لا تُهددها صواريخ العدو، بل يُرعبها هتاف الشعب. لأن هذه الصواريخ لا تزعزع الكرسي، أما غضب الجماهير فيفعل. فكل ما لا تسيطر عليه الدولة يُعدّ خطرًا، حتى لو كان تعاطفًا مع قضية عادلة، لأن هذا التعاطف قد يتحوّل إلى وعي سياسي، وهذا الوعي قد يتحوّل إلى مطالبات بالكرامة، وهي المطالبات ذاتها التي أسقطت أنظمة من قبل.
الشراكة الضمنية مع العدو
ثمة دول عربية لم تعد ترى في الاحتلال خطرًا، بل شريكًا ضمنيًا في الحفاظ على "الاستقرار" بمعناه السلطوي. فمتى ما تعهّد العدو بألا يدعم المعارضة، وألا يحرّض الشارع، يمكن حينها الحديث عن "سلام الشجعان". وهكذا يصبح قمع المقاومة وتحييد الشعوب مطلبًا مشتركًا بين الاحتلال وأنظمة المنطقة.
هندسة الخوف بدلًا من التعبئة
بينما تُجنّد الشعوب الواعية مواردها لمقاومة المحتل، تُجنّد بعض الأنظمة أجهزتها لتخويف الشعوب. فتارة بالترهيب من الفوضى، وتارة بتخوين المعارضين، وتارة بصناعة عدو بديل (إيران، الإخوان، حماس..)، لتبقى المعركة دومًا في الداخل، ولتبقى الشعوب في حالة قلق، لا في حالة وعي أو رفض.
الشعوب تحت المجهر.. والأنظمة في مأزق أمام الرأي العام
ازدادت الهوة بين الشعوب العربية وحكوماتها بشكل صارخ مع حرب غزة الأخيرة. فلم تعد الفجوة تقتصر على خطاب إعلامي متباين، بل تحوّلت إلى صدام بين ضمير الشارع العربي ومواقف رسمية باردة أو متواطئة.
الرأي العام يرى المجازر، بينما الحكومات تُزايد بالتهدئة. الجماهير تريد كسر الحصار، بينما الأنظمة تتوسّل الحفاظ على التنسيق الأمني. هذا التناقض فضح ما تبقى من أوراق التجميل، وأعاد تعريف "من يمثّل من؟".
النتيجة؟ سخط يتنامى، وشرخ يتسع، ومأزق تحاول الأنظمة تجاوزه بإغراق الشعوب في أسئلة الهوية، أو تخديرها بمشاريع التنمية الشكلية، أو تحذيرها من "البديل الأسوأ". لكن رصيد الصبر الشعبي ينفد، وخطابات التضليل تفقد سحرها، شيئًا فشيئًا.
خاتمة
حين تكون الشعوب هي مصدر القلق الأول، فاعلم أن المعركة الحقيقية لم تكن يومًا مع العدو الخارجي. إنها معركة بقاء لأنظمة تعرف أنها لا تمثّل شعوبها، ولا تحظى بثقتها، ولا تستطيع مواجهتها إلا بالقمع. لكن الشعوب لا تنسى، والتاريخ لا يرحم، ووعي الأمة - وإن تعثر - لا يموت.