
التهدئة ليست سلامًا.. بل إدارة نار تحت الرماد
تُطرح التهدئة ظاهريًا كوقف لإطلاق النار أو تخفيف للحصار، لكنها عمليًا شكل من أشكال "إدارة الصراع"، لا حله. فإسرائيل، منذ انسحابها من غزة عام 2005، لم تتوقف عن التحكم في الأجواء والمنافذ، وواصلت حصار القطاع، بل وحوّلته إلى سجن مفتوح. وفي كل جولة تصعيد، يكون "وقف إطلاق النار" هو أقصى ما يُمكن للفلسطينيين انتزاعه، بينما يبقى الاحتلال بلا مساءلة.
لكن الجديد في السنوات الأخيرة، هو أن التهدئة لم تعد فقط مطلبًا تكتيكيًا، بل تحوّلت إلى مدخل لإعادة ترتيب أوراق التطبيع في المنطقة.
من "تخفيف الحصار" إلى "شروط سياسية"
منذ صفقة "الكهرباء مقابل الهدوء"، ثم "العمال مقابل التهدئة"، تبلورت معادلة خطيرة: ربط الاحتياجات المعيشية للفلسطينيين بشروط سياسية غير معلنة، منها:
- ضبط المقاومة ومنع التصعيد.
- القبول الضمني بواقع الانقسام.
- الامتناع عن التصعيد الإعلامي والسياسي.
- القبول بوساطات إقليمية تُراعي المصالح الإسرائيلية.
وهذه الشروط لا تُطرح رسميًا، بل تُمرّر عبر الوسطاء الإقليميين، وتُغلف تحت عناوين مثل "تسهيلات"، أو "منح إنسانية"، أو "مساعدات دولية".
التطبيع كجائزة خلفية.. ليس لغزة بل للأنظمة
لكن الأهم من ذلك، أن هذه التهدئة تُستخدم كأرضية لإقناع بعض الدول العربية بأن "الملف الفلسطيني لم يعد عقبة"، وأن "الاستقرار ممكن"، وبالتالي يمكن المضيّ في اتفاقات التطبيع دون حرج داخلي.
فغزة – من وجهة نظر بعض العواصم العربية – تشكل تهديدًا لصورة "السلام الإقليمي"، ولذلك فإن تهدئتها، ولو بالقوة أو بالإغراء، تُمهّد الطريق لمسار التطبيع. ومن هنا، تُصبح المساعدات الممنوحة لغزة بمثابة "رشوة" غير مباشرة، لشراء الصمت، أو على الأقل تحييد الجبهة.
الوسطاء: من وسطاء سلام إلى مهندسي تطويع
اللاعبون الإقليميون الذين يتولون الوساطة – سواء قطر أو مصر أو الأمم المتحدة – باتوا يمارسون دورًا يتجاوز "تخفيف التوتر"، ليصل إلى هندسة سلوك الفصائل وفق ما تريده واشنطن وتل أبيب.
فكل تهدئة تُرفق بحزمة من "المساعدات المشروطة"، التي ترتبط بتصرفات الميدان، وتُرهن بثقة الاحتلال، ويجري الإشراف عليها من أطراف تطبّع علنًا، وتُنسّق أمنيًا في الخفاء.
هذا التحوّل من الوساطة إلى الترويض لا يمكن فصله عن المساعي الجارية لصناعة شرق أوسط جديد تُطبّع فيه الأنظمة أولًا، وتُقيّد فيه المقاومة ثانيًا، وتُروَّض فيه الشعوب ثالثًا.
الشعب يدفع الثمن: لا رفع حصار ولا كرامة وطنية
رغم كل ما يُروَّج عن "تهدئة مستدامة"، لم يلمس أهل غزة تغييرًا حقيقيًا في واقعهم. فالحصار مستمر، والبطالة مرتفعة، والمعابر تُفتح جزئيًا وبشكل انتقائي، والاحتلال لا يزال يفرض شروطه على أبسط تفاصيل الحياة اليومية.
أما حين يخرج الناس في مظاهرات شعبية تطالب بحقوقهم أو ترفض التنازلات، فإنهم يُواجَهون بالقمع، سواء من الاحتلال أو من الأجهزة الأمنية المرتبطة بالسلطة أو بالتفاهمات غير المعلنة.
وهكذا، تُحوّل "التهدئة" من مطلب شعبي إلى أداة لضبط الشعب، ومن شعار إنساني إلى وسيلة لعزل غزة عن عمقها العربي والمقاوم.
خلاصة: بين الصمت المشروط والسلام الزائف
ما لم يُقال عن صفقات التهدئة، هو أنها ليست مسارات نحو السلام، بل أدوات لإدامة الهيمنة.
فالاحتلال لا يُقدّم تنازلات بلا مقابل، وما يقدّمه ليس "تسهيلات" بل "شروطًا ناعمة"، تُفرض عبر الوسطاء، وتُمرَّر باسم الاستقرار.
أما التطبيع، فلا يأتي بعد تهدئة حقيقية، بل يُفرَض من فوق، وتُستثمر فيه هذه التهدئة لتبرير استمرار العلاقات، وإقناع العواصم المترددة بأن القضية الفلسطينية "أصبحت قابلة للإدارة".
وهذا هو الخطر الحقيقي: أن تتحوّل المعاناة إلى ورقة مساومة، والمقاومة إلى ملف تفاوضي، والمساعدات إلى أداة صمت.