إعادة هندسة الخريطة: هل نحن أمام "سايكس بيكو" جديدة؟

في خضمّ التغيرات الجيوسياسية التي تعصف بالمنطقة منذ أكثر من عقد، يتكرّر سؤال جوهري: هل ما يجري من تفكيك، وإعادة تموضع، وتبدّل في التحالفات، هو مجرد تراكم أزمات؟ أم أن هناك خطة صامتة تُرسم بخيوط خفية لإعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة، على غرار اتفاقية "سايكس بيكو" قبل مئة عام؟

الإجابة تبدأ من فهم ما تغيّر، وما بقي، وما يُراد تغييره قسرًا باسم "الاستقرار" أو "مكافحة الإرهاب" أو "السلام الإبراهيمي".

من سايكس بيكو الأولى إلى خرائط ما بعد الفوضى

اتفاقية "سايكس بيكو" عام 1916 لم تكن مجرّد تقسيمٍ للمُلكيات بين الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، بل كانت لحظة تأسيسية لصياغة "نظام طاعة إقليمي"، يربط الدول الوليدة بمصالح القوى المنتصرة.
واليوم، وبعد قرن من تلك الصفقة، يبدو أن المنطقة تدخل مرحلة جديدة: ليست بتقسيم الحدود بالمعنى الكلاسيكي، بل بإعادة تعريف السيادة، وتفكيك السلطة، واستبدال الدولة المركزية بوحدات وظيفية أشبه بالمحميات السياسية.

فلم تعد المسألة رسم حدود على الورق، بل رسم خرائط النفوذ والوظيفة:
من يُنتج الطاقة؟ من يحرس الحدود؟ من يقمع؟ من يُطبع؟ ومن يُستخدم كورقة تفاوض؟

سوريا، اليمن، ليبيا: دولٌ تُفكَّك تحت غطاء التسوية

لم تكن الحروب في هذه الدول مجرد صراعات أهلية، بل ساحات لإعادة هندسة السلطة.
ففي سوريا، لا تتنازع الأطراف المحلية على الحكم فقط، بل تتقاسم القوى الخارجية مناطق النفوذ: روسيا، إيران، تركيا، أمريكا، وحتى إسرائيل.
أما اليمن، فقد تحوّلت من دولة مركزية إلى مساحات موزّعة بين قوى قبلية وإقليمية، تديرها خطوط عسكرية ومالية، لا سياسات وطنية.
وفي ليبيا، يجري بناء "حل سياسي" على أساس تقاسم جغرافي للمصالح بين قوى متناقضة، تحت مسمّى "الحل الليبي الليبي".

كل هذه الصيغ ليست إلا نماذج "سايكس بيكو وظيفية" جديدة:
تقسيم لا يغيّر الخرائط الرسمية، لكنه يعيد توزيع الفاعلية والقرار، وفق ما يخدم مصالح العواصم الكبرى.

التطبيع والجيوش الاقتصادية: أدوات ناعمة في هندسة جديدة

في هذا السياق، لا يُمكن تجاهل مسار التطبيع العربي مع إسرائيل، الذي يُقدَّم كخيار سيادي، لكنه في العمق جزء من مشروع سياسي أوسع لتصفية القضية الفلسطينية، ودمج إسرائيل في المنطقة كقوة قيادية.

وهنا تظهر "الوظائف الجديدة" للدول العربية:

  • دول تُستدعى لإعادة الإعمار تحت شروط سياسية.
  • دول تُمنح أدوارًا "إدارية" في مناطق غيرها (كما يُطرح للأردن أو مصر في غزة والضفة).
  • دول تُسند إليها مهمات تصدير الغاز أو السيطرة على الموانئ أو مراقبة الحدود، نيابة عن الغرب.

وبدلاً من تقسيم نفوذ مباشر، يجري توزيع المهام الوظيفية ضمن منظومة شرق أوسطية جديدة، تُدار ماليًا وتكنولوجيًا من الخارج، وتُنفّذ داخليًا عبر وكلاء محليين.

العراق ولبنان: تقسيم الوظيفة لا الجغرافيا

لم تُقسَّم هذه الدول رسميًا، لكن النظام فيها أصبح مقسّمًا فعليًا.
في العراق، تُدار مناطق كاملة وفق منطق الميليشيا أو النفوذ الدولي أو العشائري، بينما تضع واشنطن وطهران قواعد اللعب من خلف الستار.
وفي لبنان، النظام الطائفي لم يعد مجرد تقليد سياسي، بل أداة هندسة دائمة للتعطيل والانهيار وإعادة التشكيل كلما اقتضت الحاجة.

وهذا "التقسيم السياسي المقنّع" يُفضي إلى ذات النتيجة:
دول لا تملك قرارها، ومؤسسات تُدار بوظيفة خارجية، وخرائط تُعاد صياغتها بدون أن تتغيّر على الورق.

فلسطين: الغائب الحاضر في كل صفقات إعادة الترتيب

المفارقة أن كل صراع، وكل تسوية، وكل تطبيع، مرتبط في جوهره بمصير القضية الفلسطينية.
فـ"السلام الإبراهيمي" لا يهدف فقط لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، بل لإعادة رسم تموضع القضية الفلسطينية بحيث تُصبح "ملفًا إنسانيًا" أو "حالة حكم ذاتي موسّع"، لا مشروع تحرر.
وفي خضمّ إعادة هندسة الخريطة، تُطرح "صفقات" لإعادة الإعمار أو لحكم غزة والضفة، لكنها في جوهرها إعادة توزيع للسيطرة، لا استعادة للحقوق.

الخاتمة: سايكس بيكو جديدة بلا خرائط.. بل بوظائف وأدوار

ما يجري اليوم ليس تكرارًا لسايكس بيكو القديمة، بل تجديدًا لها بصيغة عولمية:
لا خرائط استعمارية واضحة، بل أدوار محكومة بالعقود والمساعدات والقواعد العسكرية والتنسيقات الأمنية.
الخطر الحقيقي ليس في تغير الحدود، بل في محو مفهوم الدولة المستقلة ذات القرار، وتحويل العالم العربي إلى ساحة وظائف موزّعة بين قوى تتصارع من بعيد، وتتواطأ من قريب.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡