من البحر إلى الخريطة: أرخبيل الملايو بين ذاكرة الممالك وحدود الدولة

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك:

في نهاية هذه الرحلة الطويلة عبر تاريخ أرخبيل الملايو، من إمبراطوريات البحارة البوذيين إلى سلطانات الإسلام، ومن الموانئ المزدهرة إلى حطام الاستعمار، يبرز سؤال واحد لا يمكن تجاهله: ما الذي جرى لهذا العالم الذي كان يصنع ممالكه على ضفاف الموج، حتى صار مجرد فسيفساء من دول تتنازع الحدود وتتنافس على الاستثمارات؟

لقد حاولت هذه السلسلة أن تستعيد الصورة الكاملة: أرخبيل الملايو ليس كيانًا جغرافيًا فقط، بل هو هوية بحرية–تجارية–دينية–ثقافية تشكّلت عبر قرون من التواصل، لا من الانفصال. والبحر لم يكن حدودًا، بل كان طريقًا للأنبياء والتجار والجيوش، وللحكايات أيضًا.

الهوية المائية التي مزّقتها الخرائط

كانت الممالك القديمة مثل سريفيجايا، ماجاباهيت، ملقا، جوهور، سولو، وبروناي تدرك أن البحر ليس فراغًا، بل امتداد للنفوذ والثقافة. فكانت السلطنة تَحكم الجزر لا بالأسوار بل بالتحالفات، وتبني نفوذها عبر السفن لا الجيوش.

لكن ما جرى لاحقًا، خصوصًا مع الاستعمار الأوروبي، هو "خرْطة" المنطقة: تقسيمها، قطع أوصالها، وتحويل البحر من جسر إلى حاجز.
أصبحت الجزر التي ترتبط بصلات لغوية ودينية واجتماعية وثيقة، تخضع لأنظمة استعمارية مختلفة (البرتغال، هولندا، بريطانيا، إسبانيا)، ثم لدول قومية منفصلة بعد الاستقلال.

النتيجة؟ تفكك الذاكرة الجماعية، وتحوّل المشترك التاريخي إلى مادة منسية في كتب المدرسة الوطنية.

من السلاطين إلى الدول الحديثة: من خسر ومن كسب؟

  • إندونيسيا، التي وَرِثت إرث ماجاباهيت وجزر جاوة وسومطرة، اختارت طريق الجمهورية المركزية وألغت نظام السلاطين، لكنها ما زالت تصارع مركزية الدولة ومطالب الاستقلال الثقافي في بعض الأقاليم.
  • ماليزيا، اختارت العكس: دولة فدرالية تحافظ على النظام الملكي للسلاطين. لكن هذا لم يمنع أزمة هوية بين الملايويين والصينيين والهنود.
  • بروناي اختارت البقاء سلطنة محافظة وغنية، لكن على حساب الانغلاق السياسي والتكامل الإقليمي.
  • سنغافورة انفصلت عن ماليزيا لتبني دولة حديثة صلبة، لكنها فقدت بذلك عمقها الملايوي التقليدي.
  • أما الفلبين المسلمة، فبقيت الجبهة الشرقية المهملة، ضُمت إلى دولة لا تشبهها، وتحولت إلى مساحة مقاومة وتهميش متكرر.

الأرخبيل اليوم: بين المشروع الإسلامي والمشروع الصيني

من أبرز ملامح التغير الجيوسياسي اليوم في المنطقة:

  1. الصعود الصيني عبر "مبادرة الحزام والطريق"، ومحاولة بكين ربط موانئ الملايو بشبكة نفوذها الاقتصادية والبحرية.
  2. الفراغ الإسلامي: رغم أن الإسلام لا يزال الديانة الكبرى في معظم دول الأرخبيل، إلا أن غيابه كمشروع حضاري موحد ترك الساحة للمشاريع القومية والاقتصادية فقط.
  3. الصراع على بحر الصين الجنوبي، الذي يعيد للأذهان أهمية الجغرافيا البحرية، لكن بصيغة صدامية هذه المرة، لا تعاونية.

والسؤال العميق: هل يمكن للمنطقة أن تُعيد اكتشاف ذاتها كمجتمع أرخبيل، لا كجزر سياسية منعزلة؟

هل من مستقبل مشترك لأرخبيل الملايو؟

رغم كل الحدود، لا تزال هناك ملامح وحدة خفية:

  • اللغات ما زالت متقاربة (الباهاسا، الملايوية، السوج، إلخ).
  • الروابط العائلية بين مناطق مثل صباح وبروناي وسولو قائمة رغم الحدود.
  • الاقتصاد البحري يعود إلى الواجهة: من التجارة إلى السياحة إلى مصائد السمك.
  • ووعي الشباب يتجاوز حدود المدرسة الوطنية، نحو هوية ملايوية أوسع.

لكن ذلك يظل محاصرًا بالأنظمة السياسية، والمؤسسات المركزية، والانقسامات الدينية–القومية، والإرث الاستعماري الثقيل.

الختام: ما البحر إلا ذاكرة

هذه السلسلة لم تكن مجرد استعراض للتاريخ، بل محاولة لفهم الحاضر من جذوره المنسية.

أرخبيل الملايو كان يومًا ما شبكة حية من الجزر المتواصلة، تربط الإسلام بالتجارة، والجبال بالسواحل، والسلطان بالرعية، والمقدس بالمادي.
أما اليوم، فباتت هذه الشبكة مقطّعة الأوصال، ما بين جمهوريات وسلطنات، ما بين القومية والدين، ما بين الماضي والحاضر.

لكن البحر لا ينسى. ومن يُصغِ جيدًا، سيجد أن الأمواج لا تزال تروي قصة ممالكٍ لم تنتهِ بعد، بل تنتظر من يعيد وصلها.


وصف الصورة:

صورة واقعية جوية لسلسلة من الجزر الاستوائية في جنوب شرق آسيا، تبدو مترابطة كالعِقد فوق صفحة البحر، وتبحر بينها سفن تقليدية قديمة، بينما تظهر خلفية حضرية حديثة على أحد الشواطئ، ترمز للتناقض بين التاريخ والحداثة.

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك

أحدث أقدم