عبودية الحداثة: كيف صُمّمت الحياة لتمنعك من التفكير؟

سلسلة: تحرير الإنسان من منظومة الركض:
عبر التاريخ، كانت العبودية تُفرض بالسلاسل. أما اليوم، فهي تُزرع في النفس، وتُغرس في تفاصيل اليوم، وتُغلف بمظهر "الحرية".

إنسان اليوم لا يُساق بالسوط، بل بجدول أعمال مزدحم، وإعلانات متلاحقة، وتعليم مفرغ من الوعي، وإعلام يصنع له رأيه، وسوق ترسم له أحلامه.

هو لا يشعر أنه عبد، لأنه يملك هاتفًا، وخيارات استهلاكية كثيرة، ويظن نفسه "حرًّا" لأنه يستطيع أن يغيّر القناة أو يطلب الطعام بنقرة.
لكن الحقيقة أشد قسوة: لقد صُمّمت الحياة نفسها بطريقة تمنعه من التفكير.


أولًا: تصميم الحياة ضد الوعي

نظام الحياة الحديث لا يُنتج إنسانًا يفكر، بل إنسانًا يركض.

  • من التعليم إلى الوظيفة،
  • من السوق إلى الترفيه،
  • من الهاتف إلى الوجبات السريعة،

كل شيء فيه مصمم لكي لا يمنحك فرصة واحدة لتسأل: لماذا؟

السرعة،
الإلحاح،
الضجيج،
كلها أدوات لجعل العقل دائم الانشغال، فلا يتوقف ليحلل أو يراجع أو يعيد فهم العالم من حوله.


ثانيًا: مناهج التعليم التي تقتل السؤال

المدرسة ـ في أغلب العالم ـ لم تعد تصنع الإنسان، بل العامل.
منهجها ليس بناء العقل، بل ترويضه.

  • تُلقّنك المعلومات،
  • تقيسك بالاختبارات،
  • تكافئك إن كرّرت،
  • وتُقصيك إن فكّرت خارج النمط.

لا تُعلّمك كيف تفكر، بل ماذا يجب أن تفكر.
وهكذا، يبدأ الإنسان حياته في بيئة لا ترى في "السؤال العميق" فضيلة، بل تهديدًا.


ثالثًا: الإعلام والترفيه كأدوات لإنتاج الوعي الزائف

الإعلام لا يخبرك فقط بما حدث، بل كيف يجب أن تشعر تجاهه.
هو لا يعرض الأحداث، بل يصنع "السردية"، ويوجّه الانتباه، ويصنع العدو والضحية في آنٍ واحد.

أما الترفيه، فقد تحوّل من فنّ يُطهّر النفس، إلى أداة تسطيح، تملأ المساحات التي كان يمكن أن تُزرع فيها فكرة.

في العالم الحديث:
الإنسان يُضحك عليه، كي لا يتساءل لماذا يبكي من داخله.


رابعًا: التكنولوجيا كوسيط للاستلاب لا للتحرر

ما يُدهشنا من "تقدم تقني"، ليس بالضرورة تقدمًا إنسانيًا.
الهواتف، التطبيقات، "الخوارزميات"، كلها أدوات لا تعمل لصالحك، بل تعمل عليك.

  • تقترح عليك ماذا تشاهد،
  • تقرر لك ماذا تقرأ،
  • تعرف كم دقيقة ركزت،
  • وتكافئك إذا انزلقت في التيار العام.

وهكذا، يتحول الإنسان من فاعل إلى مفعول به رقميًا، يعيش داخل خوارزمية صمّمها رأس مال لا يهتم بعقلك، بل بجيبك.


خامسًا: دوّامة العمل والتسويق الذاتي

الحياة العملية الحديثة تُقاس بعدد المهام، لا بجودة التفكير.

  • ساعات العمل تطول،
  • الراحة تُملأ بالقلق،
  • والنجاح يُقاس بمدى قدرتك على تسويق نفسك، لا على عمقك أو رسالتك.

في هذه الحياة، من يتأمل يُتّهم بالكسل، ومن ينسحب لحظة يُقال عنه فاشل، ومن يرفض اللعبة يُقصى.
حتى الإبداع صار مرهونًا بمدى قابليته للبيع.


سادسًا: فشل الحداثة في تحرير الإنسان

كانت الوعود الأولى للحداثة تقول: "سنحررك من الجهل والتخلف."
لكنها خلقت إنسانًا لا يُصفّق إلا لما يُعرض عليه، ولا يؤمن إلا بما يُروّج له، ولا يرى العالم إلا عبر عدسات صمّمها له غيره.

لقد خرج الإنسان من سجن الجغرافيا، ليدخل سجن السرعة والسطحية والانبهار.


خاتمة: العبودية التي تبتسم

أسوأ أنواع العبودية ليست تلك التي تُكبلك بقوة خارجية، بل تلك التي تُقنعك أنك حر، بينما أنت تلبس قيدًا ناعمًا لا يُرى.

لقد صُمّمت الحياة الحديثة كي لا تفكر.
لكنها لا تستطيع منْعك إذا قررت أن تنتزع تفكيرك بالقوة.

كل مقاومة تبدأ بلحظة وعي:
أن تسأل، أن تتريث، أن ترفض، أن تتأمل، أن تكتب، أن تبني مشروعك، أن تقول: "أنا لست ترسًا، أنا إنسان."



عناوين في السلسلة :

أحدث أقدم