الإنسان المستنزف: هندسة الانتباه: كيف يُستنزف وعيك من خلال هاتفك دون أن تدري؟

الوعي لا يُسرق دائمًا بالرصاص أو الرقابة. أحيانًا، يُسرق من خلال هاتف محمول تظنه "أداتك"، بينما هو في الحقيقة يُعيد تشكيل دماغك، وسلوكك، وانتباهك، ومفهومك للحقيقة والوقت والذات.

ما يُعرض أمامك ليس عشوائيًا. وما تراه، وتكرره، وتنجذب إليه، ليس حياديًا.
إنه نتاج هندسة دقيقة لصناعة الانتباه، لأن الانتباه – في عصر المنصات – هو السلعة الأولى.
ومن يتحكم في انتباهك... يتحكم فيك.

اقتصاد الانتباه: حين يصبح وعيك مادة خام للسوق

في الماضي، كان المال يُجنى من بيع البضائع. اليوم، يُجنى من بيعك أنت – أو بالأحرى: بيع عينك وعقلك وزمنك وانفعالك.

  • كل ثانية تقضيها على الشاشة تُحسب.
  • كل نقرة تُسجل.
  • كل توقّف عند صورة، كل تعليق، كل تفاعل… يُصاغ في خوارزمية.

هذه الخوارزميات لا تهتم بما تحب، بل بما يُبقِيك أطول أمام الشاشة. وكلما أطلت، كلما جرى تصنيفك، وتسويق الإعلانات إليك، وتغذيتك بالمحتوى الذي يُبقيك أسيرًا في الحلقة.

هندسة التشتيت: كيف يُمنع العقل من التركيز؟

الدماغ البشري لم يُخلق ليتعامل مع تدفق معلوماتي بهذه الكثافة والسرعة.
التمرير اللا نهائي (infinite scroll)، التنبيهات، التبدلات السريعة في المقاطع، كلها تجعل العقل في حالة طوارئ دائمة.

وهكذا:

  • يُحرَم العقل من العمق،
  • ويُعاد برمجته ليبحث دائمًا عن القصير، السريع، المثير،
  • ويصبح غير قادر على التركيز في صفحة طويلة، أو فكرة مركّبة.

إنه انقراض بطيء لقدرة الإنسان على التأمل، تحت وابل الصور والردود والتعليقات.

المحتوى لا يُعرض عليك… بل يُفرَض عليك

ما تراه على منصات التواصل ليس ما "اخترته"، بل ما اختارته لك الخوارزميات بناءً على ملفك السلوكي.
ولأنها لا تهتم بالحق، ولا بالمفيد، بل فقط بـ"ما يُثيرك" و"ما يُبقيك"، فهي:

  • تدفعك نحو الانفعال، لا التأمل.
  • تكرّر لك ما تحب، حتى تُغلق عقلك عن المختلف.
  • تغرقك في فقاعة تصديق ذاتي مستمر، تمنعك من التطور.

بكلمات أخرى: تُشبعك حتى تغرق، وتُفجّر حواسك حتى تخرس أفكارك.

هندسة الرأي العام: كيف تُصنع القضايا من الخارج؟

ما تظنه "ترندًا" أو "اهتمامًا عامًا" هو في كثير من الأحيان مُبرمج ومُوجَّه.

  • تدفع منصات معينة نحو هاشتاغ بعينه.
  • تُظهِر منشورات فئة معينة وتُخفي غيرها.
  • تُقصي من يخرج عن "النسق المقبول".

وهكذا، يتحوّل الفضاء الرقمي إلى مصنع لِما يجب أن يُقال، وما لا يجب أن يُقال، دون حاجة لرقابة صريحة.

النتيجة؟
رأي عام مُصنّع، واهتمام جمعي مُوجّه، وشعور عام بالحرية... في حين أن ما وراء الشاشة أجهزة هندسة ذهنية بالغة الدقة.

تآكل الهوية الفردية: حين تُفرَغ الذات في قوالب جاهزة

الإنسان الذي يُمضي خمس ساعات يوميًا أمام هاتفه، لا يخرج كما دخل.
ببطء، تتشكل في داخله صورة ذاتية مبنية على:

  • المقارنات الوهمية،
  • مقاطع "النجاح السريع"،
  • ثقافة اللقطة والضجيج.

يبدأ في قياس نفسه بمقاييس غير حقيقية،
ويتخلى عن مساره الخاص،
ويفقد احترامه للبطء، للصبر، للبناء العميق.

لقد سُرِق منه الزمن… دون أن يشعر.

الوعي ليس فقط أن تعرف… بل أن تستعيد سيطرتك

المشكلة ليست في الهاتف كأداة، بل في أننا لم نعد نملك أنفسنا عند استخدامه.
المطلوب ليس الهرب من العالم الرقمي، بل استعادة السيادة على أنفسنا داخله.

وهذا يعني:

  • أن تعرف متى تستخدمه، ومتى تغلقه.
  • أن تعود إلى القراءة الطويلة، والتأمل، والكتابة.
  • أن تُقاوم الإغراق، وتُعيد ترتيب أولوياتك.

فلا أحد سيحرس وعيك إن لم تحرسه أنت.

خاتمة

نحن لا نعيش زمن الرقابة، بل زمن الهندسة الدقيقة للعقل.
العدو ليس السجن، بل الشاشة.
والقيد لم يعد في المعصم، بل في الانتباه المسلوب والذهن المشتت.

وما لم نستعد حقّنا في أن نختار ماذا نرى، ومتى، ولماذا،
سنظل نعيش داخل عقول صممها لنا غيرنا،
وسنموت ونحن نظن أننا أحرار.

سلسلة: الإنسان المستنزف

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.