
- يمتلك وقتًا كافيًا،
- طاقة ذهنية صافية،
- إحساسًا بالمعنى،
- وأفقًا يرى فيه أثر فكرته.
لكن حين يُسلب كل هذا من الإنسان، كما رأينا في الجزء الأول، فإن أول ما يموت فيه هو قدرته على الإبداع.
فهل من سبيل إلى استعادتها؟ هل يمكننا، في هذا الركام من الضغوط والتفاهات، أن ننتزع لحظة صدق مع الذات، نعيد فيها بناء علاقتنا بالحياة، بالوقت، وبالغاية من الوجود؟
الجواب نعم، لكن ليس عبر "وصفة تنمية بشرية"، بل عبر إعادة ترتيب الأساس نفسه.
1. إعادة تعريف النجاح:
أول ما يجب أن يتحرر منه الإنسان هو التعريف المسلوق للنجاح الذي تفرضه الثقافة الاستهلاكية:
- راتب أعلى،
- مظهر لامع،
- شهرة أو عدد متابعين.
هذا النجاح وهم.
النجاح الحقيقي هو أن تبني أثرًا يبقى بعدك، حتى لو لم يصفّق له أحد الآن.
ومتى ما تحرر الإنسان من سجن المقارنات السطحية، تنفست أفكاره، وبدأ الإبداع يعود إليه من الداخل.
2. الصمت المنتزع من الزحام
لا يمكن أن يولد الإبداع وسط ضجيج دائم.
الإنسان بحاجة إلى لحظة فراغ ذهني حقيقي، ليست استراحة، بل مساحة تأمل.
ومع أن الحياة لا تمنحنا هذا الفراغ طواعية، فإن علينا أن ننتزعه بالقوة:
- أوقف التصفح العشوائي.
- قلّل الضجيج البصري والإعلامي.
- اغلق جهازك ساعة في اليوم.
- اخرج للمشي وحدك.
- اكتب لنفسك لا للنشر.
في هذه اللحظات، يبدأ العقل في التقاط نفسه... ويعود الإبداع ليتنفس.
3. مقاومة هندسة الوقت الحديثة
الزمن اليوم مُجزأ إلى وحدات إنتاج واستهلاك وترفيه، لا إلى تفكير وخلق وتأمل.
ولذا، إن لم تعِ ما يُفعَل بوقتك، سيُسحب منك دون أن تشعر.
لكي تستعيد قدرتك على الإبداع، لا بد أن:
- تقاوم منطق السرعة الدائم،
- تبطئ حين يجب أن تتأمل،
- ترفض ضغط "المفيد الآن" إن كان يمنعك من بناء "الأعمق لاحقًا".
كل منجز عظيم بدأ من شخص قرر أن لا يعيش وفق "جدول الآخرين".
4. ابحث عن مشروع يتجاوزك
الفرد الذي لا يحمل قضية أو مشروعًا أكبر من ذاته، يبقى أسيرًا لنفسه.
والإبداع لا ينمو إلا حين يشعر صاحبه أن ما يصنعه يتصل بشيء أعظم منه.
قد تكون قضية أمّتك، أو مجتمعك، أو فكرة عابرة للزمن.
الذين يُبدعون هم أولئك الذين يكتبون للغائبين، لا للحاضرين فقط.
5. تحالف مع من يشبهك
من أكبر أسباب خنق الإبداع، العزلة الفكرية.
حين لا يجد الإنسان من يُحادثه في العمق، تتآكل قدرته على التفكير.
ابحث عن "القلائل" الذين يشبهونك في الهمّ والرؤية، ولو كانوا متفرقين.
كوّن "دوائر فكرية صغيرة"، خارج وسائل التواصل، خارج دوامة السوق.
الفكر يحتاج بيئة حاضنة، ولو كانت ضيّقة.
6. الإيمان بأن الفكرة البسيطة تصنع فارقًا
كثيرون لا يبدعون لأنهم ينتظرون مشروعًا "عظيمًا" أو "مذهلًا" أو "غير مسبوق".
وهذا وهم آخر.
فكرة صغيرة، مكتوبة بإخلاص، قد توقظ عقلًا، وتغيّر مسارًا، وتزرع بذرة.
لا تؤجل الإبداع باسم العظمة.
ابدأ، ولو بحرف واحد.
7. الحضور الروحي: الجذر الذي لا يُرى
الجانب الروحي ـ وليس فقط الديني ـ هو أصل الإبداع.
الإنسان الذي فقد علاقته بالخالق، وبذاته، وبالمعنى، لا يستطيع أن يُنتج ما يسمو.
ليس لأن الدين "شرط للإبداع"، بل لأن الحضور الروحي يربطك بالخلود، ويوسّع أفق رؤيتك، ويمنحك طاقة لا تمنحها لك الدنيا.
حين يعرف الإنسان لماذا خُلق، يعرف ماذا يجب أن يُنتج.
خاتمة:
لا أحد سيعطيك الوقت لتُبدع.
ولا أحد سيفتح لك الطريق لتفكر، أو تكتب، أو تبني.
لكنك إن لم تفعل، ستتحول إلى ترس آخر في ماكينة لا تنتج إلا التكرار.
استعادة القدرة على الإبداع ليست رفاهية، بل معركة من معارك البقاء الحضاري.
وإن لم يخضها الإنسان العادي، فلن يخوضها أحد.
سلسلة: الإنسان المستنزف