
منذ أن ظهرت أولى المؤسسات التعليمية، كان التعليم يُنظر إليه بوصفه رسالة نبيلة، تهدف إلى صناعة الإنسان الحر، وتنمية وعيه، وتأهيله ليكون فاعلًا في مجتمعه. لكن في عصر الرأسمالية الحديثة، ومع تصاعد النزعة النيوليبرالية، بدأ التعليم يتحوّل إلى مشروع ربحي، حيث لم يعد السؤال: "ماذا يتعلم الطالب؟" بل: "كم يدفع؟ وماذا سيجني؟".
هكذا، وبدل أن تبني الجامعات العقول، أصبحت تسوّق الشهادات. وبدل أن تحرّر الإنسان، باتت تهيّئه ليكون ترسًا في آلة السوق، مطيعًا، صامتًا، بلا تساؤل، بلا احتجاج.
أولًا: كيف بدأ تسليع التعليم؟
بدأت ملامح التحول في الثمانينات مع صعود النيوليبرالية، حين بدأ يُنظر إلى التعليم كـ"استثمار فردي" لا كحق جماعي. صارت الجامعات تُدار بعقلية الشركات، تبحث عن "المنافسة"، و"تحسين المؤشرات"، و"استقطاب الزبائن"، بدل أن تكون فضاءً للفكر والنقاش الحر.
- دخلت لغة السوق: الطالب يُسمّى "عميلًا"، التخصص "منتجًا"، والشهادة "عائدًا على الاستثمار".
- ارتفعت الرسوم، وبدأ التمييز بين من يملك ومن لا يملك.
- وتحوّلت الوظيفة الأكاديمية من تعليم وتفكير، إلى تسويق وتصنيف وإرضاء السوق.
ثانيًا: الشهادة فوق المعرفة
في ظل هذا المنطق، لم تعد القيمة في ماذا تعرف، بل في ماذا تحمل من ورق مختوم. صار الطالب يدرس لأجل الشهادة، لا لأجل الفهم أو الشغف. يتعلم ليجتاز، لا ليغير أو يتأمل.
هذا النمط أنتج مخرجات جوفاء:
- خريجون لا يقرؤون، لا يفكرون، لا يسألون،
- يحملون شهادات كبرى، لكن بلا أدوات تحليل،
- يجيدون العروض التقديمية، ويجهلون الواقع من حولهم.
لقد مات السؤال، وبقي النموذج.
ثالثًا: مناهج مصمّمة لإرضاء السوق
في ظل سطوة الشركات، أصبحت بعض الجامعات تُعيد تصميم مناهجها بناء على "الطلب الوظيفي"، لا على الحاجات الحضارية أو الفكرية.
- زاد التركيز على التكنولوجيا، والبرمجة، والتسويق.
- تراجعت الفلسفة، والتاريخ، والعلوم الاجتماعية.
- أُفرغ التعليم من البُعد الإنساني، وأصبح تأهيليًا آليًا: وظيفة لا رسالة، تدريب لا تفكير.
المفارقة: السوق لا يريد إنسانًا حرًا، بل موظفًا مطيعًا. والجامعة اليوم تُنتج هذا الإنسان بالضبط.
رابعًا: الجامعات الخاصة بوابة التمييز الطبقي
في كثير من دول العالم، أصبحت الجامعات الخاصة سوقًا مغلقًا على من يملك الثمن. فيها كل شيء يباع:
- القبول بشرط الدفع.
- العلامة بشرط "رضا الطالب" كزبون.
- السمعة عبر الإعلانات والترتيب التسويقي.
أما الفقراء، فإما يُطردون إلى جامعات عامة مهمّشة، أو يُقصَون من التعليم أصلًا. وهكذا، يُعاد إنتاج الطبقية لا عبر السياسة، بل عبر "التمييز الأكاديمي" المغلف بالوجاهة.
خامسًا: صناعة أداة لا عقل
الغاية الخفية للتعليم التجاري ليست فقط الربح، بل إعادة تشكيل العقل البشري ليقبل السوق كقدر. الطالب لا يُعطى أدوات النقد، بل فقط مهارات "النجاح" في النظام القائم. يُعلَّم كيف ينجز مهمة، لا كيف يراجع النظام نفسه.
التعليم التجاري لا يُحرّض على التمرّد أو الإبداع، بل يصنع الإنسان الصالح للاندماج، لا الإنسان القادر على التغيير. إنه تدريب على الخضوع، ولكن بلغة حديثة أنيقة.
سادسًا: العواقب طويلة الأمد
حين يتحوّل التعليم إلى مشروع ربحي، تترتب عواقب كارثية:
- تفريغ المجتمعات من المفكرين والمصلحين،
- غلبة "المهنيين" الخائفين على وظائفهم بدل الأحرار القادرين على النقد،
- تبعية المعرفة لاحتياجات السوق بدل احتياجات الأمة،
- انهيار قيمة الإنسان إلى مجرد كفاءة إنتاجية.
وهكذا تنهار الحضارات من داخل جامعاتها، لأن التعليم يُصنع لا لتحرير الإنسان، بل لتدجينه.
سابعًا: ما البديل؟ إعادة المعنى للعلم
- العودة إلى اعتبار التعليم رسالة لا تجارة.
- إحياء التعليم الإنساني والفكري لا فقط التقني والوظيفي.
- دعم الجامعات العامة، وتحقيق العدالة في فرص التعلم.
- إعادة بناء المناهج على أسئلة كبرى: من نحن؟ ماذا نريد؟ لماذا نتعلم؟
- تحرير المعرفة من هيمنة الشركات والممولين، لتعود أداة نهضة لا استهلاك.
خاتمة
قد تبني الأنظمة التعليمية التجارية مهارات، لكنها لا تبني حضارات.
وقد تُخرّج موظفين، لكنها لا تُنتج مفكرين.
إن التعليم الذي لا يزرع التساؤل، ولا يحمي روح الإنسان من الرداءة، هو مشروع تجهيل جماعي مهما ارتفعت مؤشرات تصنيفه.
فإما أن نعيد للعلم روحه، أو نتحوّل إلى سوق عقول مستعملة، تباع وتشترى، بلا معنى، بلا هدف، بلا وطن.