قافلة الصمود: حين اصطدمت غزة بالعنف العربي

انطلقت قافلة الصمود من تونس في يونيو 2025، مدفوعة بأمل الشعوب المغاربية في كسر الحصار عن غزة، وبإرادة جماعية تجاوزت الحدود السياسية الرسمية. حافلات مزيّنة بأعلام فلسطين، ومئات النشطاء من تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، تحدّوا الخريطة الممزقة وتوجهوا برًا نحو معبر رفح. لكنّ القافلة التي جسّدت رمزية الشعوب، واجهت على حدود مصر جدارًا من العنف المنظّم، والردع السياسي.

في هذه اللحظة المفصلية، لم يكن الصراع مع الاحتلال، بل مع الأنظمة التي نصبت نفسها بوابةً لغزة، وشرطيًا لتقييد كل مبادرة خارج السقف الرسمي.

مسيرة شعبية... حتى حدود سرت

بدأت القافلة من العاصمة التونسية في 9 يونيو، مرورًا بالحدود الليبية، حيث استُقبل المشاركون بالترحاب في مدن الزاوية وطرابلس ومصراتة. دعمت البلديات الليبية المتعاطفة القافلة لوجستيًا وماديًا، في مشهد وحدوي غير مألوف في زمن التمزق العربي. لكن القافلة سرعان ما اصطدمت بجدار السياسة حين وصلت إلى تخوم مدينة سرت، حيث أوقفتها قوات تابعة لخليفة حفتر، بحجة عدم التنسيق مع "السلطات الشرعية في الشرق". احتُجز عدد من النشطاء، وأُعيق البث الإعلامي المرافق، فتوقفت القافلة قسرًا.

ورغم الإفراج عن المعتقلين لاحقًا، لم يُسمح بمتابعة المسير نحو الشرق الليبي، حيث الطريق الوحيد إلى معبر السلوم المؤدي إلى مصر. وهكذا، تحوّل الحلم المغاربي إلى انسحاب اضطراري، بعد أن بات العبور مستحيلًا في ظل الانقسام الليبي.

مصر... الدولة التي خنقت التضامن

الضربة الحاسمة لم تأت من ليبيا، بل من الطرف المصري الذي تصدّى للقافلة بعنف غير مبرّر. فمع اقتراب موعد الوصول إلى معبر رفح، بدأت السلطات المصرية حملة قمع استباقية:

  • احتُجز عشرات النشطاء المغاربيين في مطار القاهرة، من الذين حاولوا اللحاق بالقافلة جوًا.
  • صودرت أجهزتهم وهواتفهم، وجرى التحقيق معهم تحت الضغط، قبل ترحيلهم قسرًا إلى بلدانهم، دون محاكمة أو اتهام.
  • تم منع عبور القافلة من الحدود البرية عبر ليبيا، بحجة غياب التصاريح الأمنية العليا.
  • رافق ذلك تحريض إعلامي من وسائل مصرية رسمية وشبه رسمية، اتهمت القافلة بأنها "مشروع فوضى" و"اختراق للأمن القومي"، في تماهٍ واضح مع الخطاب الإسرائيلي الذي دعا صراحة لمنع القافلة.

من يخشى تضامن الشعوب مع فلسطين؟

ما الذي جعل دولة كمصر، وهي الجار المباشر لغزة، تُقابل قافلة تضامن شعبية بكل هذا القدر من القمع؟ ليس الجواب أمنيًا. فالقافلة لم تكن مسلّحة، ولم تكن تهدف لخرق سيادة، بل مجرد تعبير رمزي عن وحدة الشعوب ورفض الحصار.

الجواب الحقيقي يكمن في أن السلطات تخشى أن تستعيد الشعوب زمام القضية الفلسطينية من يد الأنظمة. تخشى أن تتحول الرمزية إلى شرارة، وأن يتجاوز الوعي الشعبي القيود المفروضة على التضامن. ولذلك كان الرد حادًا، منظّمًا، ومفرطًا في القوة.

لقد قدّمت مصر، بصمتها الأمنية العنيفة، أوضح تعبير عن شراكتها الصامتة في خنق غزة. وإذا كان الحصار يُنسب في الوعي الشعبي إلى إسرائيل، فإن القافلة كشفت أن شبكة الحصار تمتد بأذرع عربية رسمية، تساهم في عزل غزة أكثر مما تفعل دبابات العدو.

النهاية التي لم تكن نهاية

انتهت قافلة الصمود دون أن تصل، لكنّها خلّفت أثرًا يتجاوز خطوط الجغرافيا. لقد كشفت هشاشة الخريطة الرسمية أمام وعي الشعوب. كما كشفت أن التضامن مع فلسطين بات يُعامل كجريمة سياسية، وأن بوابة غزة ليست معبر رفح فقط، بل شبكة من المعابر المغلقة في الضمير العربي الرسمي.

القافلة لم تفشل. لقد نجحت في تعرية من يمنع وصولها، وفي فضح من يخنق فلسطين باسم الأمن، ويطارد المتضامنين باسم السيادة.

أحدث أقدم