
الحرية كقيمة... والحرية كسلاح
في أصلها، حرية التعبير قيمة إنسانية، تعني تمكين الإنسان من التفكير والبوح والتساؤل خارج قوالب السلطة والدين والعُرف. لكن حين تتبنّاها الدول والمؤسسات كجزء من سرديتها السياسية، تتحول إلى أداة فرز: من معنا؟ من علينا؟ من يجوز له أن يتكلم؟ ومن يجب أن يُسكت باسم "السلام الاجتماعي" أو "محاربة التطرف"؟
تُصبح الحرية إذًا مشروطة بموقفك من المنظومة، لا بموقف المنظومة منك.
الرقابة الجديدة: القمع بوجه مبتسم
لم تعد الرقابة اليوم سيفًا مسلطًا بيد الرقابة الرسمية فحسب، بل تُمارَس تحت مسميات "معايير المجتمع"، و"سياسات النشر"، و"قوانين مكافحة الكراهية". ويتم تفعيلها ليس عبر الحجب الفجّ، بل بالإقصاء الخفي: خوارزميات تخفض الظهور، تقارير جماعية تؤدي للحظر، إغلاق حسابات، تصنيف بعض الآراء على أنها "ضد القيم الديمقراطية"، وكل ذلك بلغة تحفظ ظاهر اللياقة.
لقد تحوّلت المنصات من فضاء حر إلى ساحات مراقبة ناعمة، حيث يُعاقب من يخالف، ولكن بلغة "الشفافية".
الانتقائية الفاضحة: من يملك الحق في الكلام؟
لنلاحظ هذا المثال: حين ينتقد كاتب أو صحفي غربي الحرب في أوكرانيا، يُحتفى به كمثقف حر. لكن حين ينتقد آخر الاحتلال في فلسطين أو يفضح الدور الغربي في دعم المجازر، يُتهم بـ"معاداة السامية" أو "التحريض على الكراهية"، وربما يُمنع من الظهور، أو يُفصل من عمله.
حرية التعبير، إذًا، لا تُكفل إلا حين تخدم السردية المسيطرة. أما حين تكشف تناقضات السلطة، فإنها تُقمع باسم "القيم".
الخطاب المعارض... بين النفي والإدماج
لكن السيطرة لا تمارس دومًا بالنفي، بل أحيانًا بالاحتواء. فبعض المعارضين يُسمح لهم بالحديث، فقط لأنهم لا يُشكلون خطرًا على البنية العميقة للسلطة. بل قد يُستخدمون كـ"ديكور ديمقراطي" لتجميل المشهد. وهنا تكمن الخدعة: ليست كل حرية تعني تحررًا، وليس كل معارض يعني مقاومة.
إن أخطر ما تواجهه حرية التعبير ليس القمع الظاهر، بل الإدماج المُحايد الذي يُفرغها من مضمونها.
هل نحن أحرار فعلًا في قول ما نريد؟
السؤال الحاسم إذًا: من يُحدد المسموح؟ من يُعيد تعريف الحدود؟ من يملك خريطة "المقبول وغير المقبول"؟
حين تُوكَل الإجابة إلى مؤسسات إعلامية كبرى، أو شركات تكنولوجية عابرة للحدود، أو دول تضع نفسها حَكمًا أخلاقيًا على البشرية، فإننا لم نعد نتحدث عن حرية، بل عن امتيازات نُمنَحها إذا كنا "جيدين بما يكفي" وفق معاييرهم.
خاتمة: استرداد المعنى قبل استرداد الحق
حرية التعبير ليست شعارًا نُكرره، بل معركة يومية لاسترداد المعنى من بين أنياب السلطة الناعمة.
ولن تكون الحرية حقيقية ما لم تكن متاحة لكل من يخالف، لا فقط لمن يوافق.
فإن كانت الكلمة تُجزى أو تُعاقب، فإنها لم تعد حرّة، بل خاضعة.
وإن كانت الآراء تُوزن بميزان سياسي، فإننا لا نعيش في فضاء حر، بل في نظام رقابة مقنّع بثوب ديمقراطي.
الحرية ليست في أن تقول ما تشاء، بل في أن تنجو حين تفعل.