
في هذا السياق، يتحول الإعلام من وسيلة نقل إلى أداة قمع، ومن حامل للحقيقة إلى مقبرة لها.
ما بعد الكذب: عصر صناعة الإدراك
الإعلام المعاصر لا يكتفي بتزييف الوقائع، بل يعيد بناء إدراك المتلقي من الأساس. إن الخطر لم يعد في "نقل أخبار كاذبة"، بل في صياغة مشهد عالمي يُغيب فيه الضحايا ويُبرّأ فيه الجناة، أو على الأقل يُساوَون على طاولة "الروايات المتضاربة". فيُعرض القاتل كطرف في "نزاع"، والضحية كـ"طرف آخر"، وتُختزل المجازر في "اشتباكات".
هذه المراوغة اللغوية ليست عفوية، بل مدروسة. إنها جزء من استراتيجية "القتل الرمزي" التي لا تستهدف الجسد بل الذاكرة والحق.
التجاهل: الوجه الأخطر للجريمة
حين تُرتكب مذبحة في فلسطين ولا تجد لها أثرًا في العناوين الأولى، فهذه جريمة إعلامية بامتياز. التجاهل – وليس فقط التزوير – هو أحد أخطر أدوات التواطؤ. أن تُقتل أمة ويصمت الإعلام، فكأن المذبحة لم تحدث. بل الأخطر: أن تُغطى الجريمة بحدث آخر أقل شأنًا، أو بلعبة رياضية، أو بخبر منوعات سخيف.
بهذا الشكل، لا يتم فقط تغييب الحقيقة، بل يُعاد ترتيب سلم الأولويات الذهنية للجمهور: تصبح دماء الأبرياء حدثًا هامشيًا، وتُدرّب الجماهير على البلادة والانفصال العاطفي.
حين تتحدث الصورة... بلغة القاتل
حتى الصورة – أداة الصدق البصري المفترض – يمكن توظيفها في التضليل. تقطيع المشاهد، اختيار الزوايا، عرض الضحية مشوّهة، أو إظهار المعتدي في لحظة "إنسانية" (مثلاً وهو يعطي ماءً لطفل)، كلها وسائل لإعادة تشكيل الشعور العام. الصورة لم تعد تُستخدم لكشف الحقيقة، بل لبناء "رواية مسموح بها" تبرر استمرار السيطرة.
طمس السرديات: كيف يُمحى التاريخ أمام أعيننا؟
القضية ليست فقط في تغييب الوقائع الراهنة، بل في محو الذاكرة التاريخية. كيف تُعرض القضية الفلسطينية؟ كم مرة تُذكَر النكبة؟ من يعرف شيئًا عن دير ياسين أو صبرا وشاتيلا؟ من يتحدث عن حصار غزة قبل القصف؟ الإعلام يصوغ ذاكرة الشعوب، وما لا يُذكر فيه، يُمحى من الوعي، ويُعاد تقديم الواقع كأنه بدأ من اللحظة التي "أطلقت فيها المقاومة صاروخًا".
هل الإعلام شريك في الجريمة؟
نعم، الإعلام الذي يصمت عن المذبحة، أو يُبرّرها، أو يُعرضها بتوازن زائف، لا يُمكن اعتباره حياديًا. إنه يمارس دورًا مزدوجًا: يقتل الضحية مرة ثانية، ويُعيد إنتاج الجاني كفاعل عقلاني أو ضحية مضادة. الإعلام الذي يتعامل مع الحقيقة كـ"وجهة نظر" في الجرائم الكبرى، يُصبح أداة إعدام رمزية بيد السلطة.
خاتمة: بين القتل المادي والقتل الرمزي
في عالم اليوم، لم يعد القاتل بحاجة إلى إخفاء جريمته، يكفيه أن يتحكم في الإعلام. فحين تملك أدوات تشكيل الرأي العام، تستطيع أن تجعل من المجازر تفصيلاً رماديًا، ومن الضحايا "رقمًا"، ومن الحقيقة "سردية بديلة".
المعركة الحقيقية إذًا، ليست فقط على الأرض، بل في العقول. وكل من يُقاوم التضليل، ويفضح خطاب التزوير، ويفكك البنية الإعلامية للقتل الرمزي، إنما يشارك في المقاومة الأعمق: مقاومة الوعي.