
لكن ماذا يعني أن يتحدث ترامب الآن عن السلام؟ وما الذي ستربحه إسرائيل؟ وهل ما زال للفلسطينيين مكسب، بعد أن صار الدمار بلا حدود؟ وهل ضاعت القضية؟
هذا المقال ليس سردًا للأحداث، بل تفكيكٌ لما وراء الخطاب، وتحليلٌ للفرق بين ظاهر الإنسانية وحقيقة الاستغلال.
أولًا: لماذا يُلمّح ترامب بوقف الحرب الآن؟
التحوّل في خطاب ترامب لا ينبع من صحوة ضمير، بل من تبدّل الكلفة السياسية للحرب. فبعد هدنة إيران ـ إسرائيل الأخيرة، وبلوغ العدوان على غزة حد الإبادة المعلنة، أصبحت الحرب عبئًا أخلاقيًا عالميًا يصعب تبريره.
ترامب يدرك أن هذه اللحظة تحمل فرصة استراتيجية:
- هناك زخم دبلوماسي "مُتعَب"،
- إسرائيل تريد مخرجًا مشرفًا،
- الإدارة الأمريكية فشلت في فرض وقف ملزم،
- والرأي العام بدأ يتحدّث بلغة المحكمة الجنائية لا بلاغات البيت الأبيض.
في هذا الفراغ، يقدّم ترامب نفسه كـ"رجل الصفقة"، لا كصديق غزة.
ثانيًا: مكاسب ترامب من وقف الحرب
1. داخلية انتخابية
- يظهر كبطل سلام عالمي قبيل الانتخابات الرئاسية، يعيد إلى الذاكرة دوره في "اتفاقات أبراهام".
- يسحب ورقة "التخاذل في غزة" من يد الديمقراطيين، ويكسب أصوات العرب والمسلمين في ولايات حرجة.
2. خارجية استراتيجية
- يعيد ترتيب الشرق الأوسط تحت مظلته، لا عبر الأمم المتحدة.
- يطرح نفسه كقادر على ضمان أمن إسرائيل وفي الوقت نفسه قيادة إعمار غزة… على طريقته.
3. اقتصادية واستثمارية
- "إعادة الإعمار" مشروع تجاري ضخم، من الشركات إلى العقارات، تحت عناوين إنسانية.
- واشنطن تضمن التمويل الخليجي، والرقابة المصرية، والهيمنة الأمنية الإسرائيلية.
باختصار: وقف الحرب ليس رحمة… بل استثمار سياسي محسوب بدقة.
ثالثًا: مكاسب إسرائيل من هذه الحرب
رغم الكلفة الهائلة، خرجت إسرائيل بجملة مكاسب:
1. تدمير البنية المقاومة في غزة
- تآكل قدرات حماس العسكرية، تفكك بنيتها الأرضية.
- اغتيالات نوعية أضعفت هيكل القيادة.
2. تثبيت مشروع "الردع الدموي"
- استخدام المجازر كأداة ردع استراتيجية ضد أي جهة تفكر بالاشتباك.
3. إعادة صياغة مستقبل غزة
- تحويل القطاع من "وطن مقاوم" إلى "ملف إغاثي" يخضع لشروط أمنية واقتصادية.
- استبدال القوة الفلسطينية المسلحة بـ"مساعدات مشروطة بنزع السلاح".
4. توسيع التطبيع بلا ثمن
- لم تُقطع العلاقات مع أي نظام عربي.
- مسار السعودية مفتوح لاحقًا ضمن صفقة شاملة، قد تشمل وقف الحرب وإعادة الإعمار.
لكن في مقابل هذه المكاسب، بدأت إسرائيل تفقد شرعيتها العالمية، وتُحاصر أخلاقيًا أمام شعوب ترى فيها اليوم كيانًا استعماريًا عاريًا من كل مبررات "الدفاع عن النفس".
رابعًا: مكاسب القضية الفلسطينية رغم الكارثة
رغم المذبحة، لم تخرج غزة صفر اليدين. بل هناك تحولات استراتيجية تُعيد تعريف القضية نفسها:
1. عودة فلسطين إلى الوعي العالمي
- لم تعد مجرد "نزاع حدود"، بل استعمار مستمر.
- الحديث عن "فصل عنصري"، "إبادة"، و"جرائم حرب" أصبح مألوفًا في كبريات الصحف والبرلمانات.
2. سقوط وهم "السلام الاقتصادي" و"الحياة تحت الاحتلال"
- الحرب أثبتت أن من لا يطالب بالحرية، لن ينعم بالحياة أصلًا.
3. انفجار الضمير الشعبي العربي والإسلامي
- رغم خذلان الأنظمة، خرجت الشعوب من المحيط إلى الخليج تقول: "غزة ليست وحدها".
- عادت فلسطين إلى صدارة الوجدان الشعبي، لا عبر خطابات الأحزاب، بل عبر دموع الأمهات.
4. انكشاف كذبة "الشرعية الدولية"
- لم تنقذ الأمم المتحدة غزة.
- لم تفرض أمريكا وقفًا للعدوان.
- فقط الشعوب الحرة والصوت الإنساني الصادق، هما من أعادا التوازن الأخلاقي للقضية.
المكسب الأهم: انهيار السردية الصهيونية عالميًا، وبداية نزع الشرعية عن المشروع الصهيوني نفسه.
خامسًا: هل ضاعت القضية؟
لا.
بل عادت إلى حقيقتها: قضية تحرر شعبي، لا ملف تفاوض دولي.- من فقدوا أبناءهم سيصمتون اليوم… لكن لن ينسوا.
- من حفروا قبور أحبابهم، سيحفرون غدًا خنادق الوعي.
- من رأى العالم متواطئًا، لن ينتظر منه خلاصًا.
فلسطين اليوم خرجت من قفص "أوسلو"، ومن خدعة "التسوية"، ومن سجن "الشرعية الدولية"، لتعود إلى الأصل:
أرضٌ يُقاتَل من أجلها، لا يُستجدى بها.
خاتمة: من يعوّض غزة؟
لا أحد.
الدم لا يعوّضه إسمنت، ولا المذابح تُمسح بمؤتمرات إعادة الإعمار.لكن الشعوب لا تُهزم بالخراب، بل بالخيانة والنسيان — وغزة لم تُخن، ولم تُنسَ.
فليأتِ ترامب، فليتحدث عن سلامه، فلتُرسم الخطط، ولتُموّل الصناديق...
لكن تحت كل حجر، وتحت كل شجرة، وتحت كل مقبرة، ستبقى الذاكرة حارسةً لما هو أعظم من أي صفقة: