النفاق الحقوقي: أين اختفت منظمات حقوق الإنسان عندما قُصفت الطفولة؟

حين تحوّلت غزة إلى مقبرة جماعية مفتوحة، لم تُسمع أصوات الاحتجاج الحقوقي كما يُفترض. غابت المفردات التي اعتدنا أن تتدفق فور وقوع أي أزمة إنسانية، وتوارى خطاب "العدالة الدولية" خلف جدار الصمت الانتقائي.

تساقط آلاف الأطفال تحت القصف، فيما اكتفت كبرى المنظمات الحقوقية بإصدار بيانات رمادية، تحافظ على "توازن لغوي"، كأن الطرفين متساويان في الجريمة.
فأين كانت العفو الدولية؟ أين اختفت هيومن رايتس ووتش؟ لماذا لم يُطلق وصف "الإبادة" إلا بعد فوات الأوان؟
هذا المقال محاولة لتفكيك النفاق الحقوقي، وكشف كيف تُدار العدالة بميزان السياسة لا القانون.


أولًا: السردية الحقوقية تحت القصف

منظمات مثل "العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش" و"الصليب الأحمر" ظلت لأشهر تتحدث عن "الضحايا المدنيين على الجانبين"، وتُدين "استخدام المدنيين كدروع بشرية"، وتتجنب إطلاق صفة "جريمة حرب" على ما يحدث، رغم الأدلة الدامغة.
كانت تُسائل المقاومة الفلسطينية على صواريخ بدائية، بينما تصف قصف أحياء كاملة بالطيران الإسرائيلي بـ"الاستخدام المفرط للقوة".

بهذا، لم تكن تلك المنظمات شاهدة على الجريمة، بل شريكة في تعويمها الخطابي.

 

ثانيًا: الحياد الكاذب... وجه آخر للانحياز

تتذرع المؤسسات الحقوقية بالحياد كأداة "للمصداقية"، لكنها في واقع الأمر تستخدمه كغطاء لتبرير عدم إدانة القاتل الواضح.
فالحياد لا يعني التوازن بين الضحية والجلاد، بل الوقوف على مسافة واحدة من الجريمة ومن يفضحها.

  • حين قُصفت مدارس الأونروا، اكتفت البيانات بـ"القلق".
  • حين استُهدفت مستشفيات الأطفال، استُخدم تعبير "التدهور الإنساني".
  • لم يُسمّ الاحتلال باسمه، بل وُصف مرارًا بـ"أعمال عدائية متبادلة".

هذا الحياد هو عين الانحياز. لأنه يمنح القاتل فرصة ليُبرر، ويترك الضحية بلا سند قانوني ولا أخلاقي.

 

ثالثًا: ازدواجية المعايير… الوجه الأكثر فجاجة

قارن تغطية هذه المنظمات لحرب أوكرانيا بما فعلته في غزة:

  • حين قُصفت مدينة أوكرانية، سارعت المنظمات الحقوقية إلى استخدام تعابير مثل: "جريمة حرب"، "إبادة جماعية"، "عدوان دولي غير مشروع".
  • أما حين قُصفت غزة بالكامل على رؤوس ساكنيها، اكتفت بالتعابير التقنية الباردة: "عملية عسكرية معقّدة"، و"ضرورة ممارسة أقصى درجات ضبط النفس".

في أوكرانيا، فتحت كل ملفات المحاكم الدولية، وفي غزة فُتحت فقط ملفات الإغاثة.

كأنّ دماء الأطفال تُفرَز حسب الجنسية، وكرامة الإنسان تُمنَح فقط لمن تحالف مع الغرب.

رابعًا: من يموّل هذه المنظمات؟ ومن يوجّه خطابها؟

العديد من هذه المنظمات تتلقى تمويلًا مباشرًا أو غير مباشر من حكومات غربية، لها مصلحة في دعم إسرائيل.
وحتى من يدّعي الاستقلال، يُحكم عليه ضمن شبكة معقدة من الاعتمادات الدبلوماسية والتصاريح والضغط السياسي.
كما أن خطاباتها تمر عبر غرف تحرير مرتبطة بمصالح الدول الكبرى، مما يجعلها تتحول من هيئات مراقبة، إلى أدوات تكييف للرأي العام.

لم تعد منظمات حقوق الإنسان تحمي الإنسان، بل تحمي صورة النظام الدولي الذي ينتهك الإنسان.

 

خامسًا: ماذا يعني هذا للنضال الفلسطيني؟

هذا الانكشاف الأخلاقي يعني أن الفلسطيني لم يعد يمكنه أن يثق بأن العالم سينصفه عبر المؤسسات القائمة.
لا الأمم المتحدة، ولا مجلس حقوق الإنسان، ولا محكمة الجنايات، ولا التقارير "المحايدة"، ستعترف بحقه الكامل طالما بقيت هذه المنظومة رهينة للنفوذ الغربي.

العدالة لا تُمنح... بل تُنتزع.
والمظلومية لا تكفي... بل تحتاج إلى مشروع مقاومة فكرية وإعلامية يفضح النفاق لا يستجديه.


خاتمة: غزة عرّت الجميع

قُصفت الطفولة، ولم تصرخ العواصم الغربية.
سُحقت أحياء كاملة، ولم تُرسل لجان تحقيق.
كان صوت المذابح أعلى من تقارير "العفو"، وكان صمود الأمهات أصدق من كل بيانات "القلق".

اليوم، سقط القناع عن "العدالة الدولية"، وعادت فلسطين إلى موقعها الحقيقي:
قضية إنسانية كبرى، تُقاس بعدد الجثث لا بعدد البنود القانونية.



وصف الصورة المقترحة:

صورة واقعية لمسعف فلسطيني يحمل جثة طفلة صغيرة ملفوفة بكفن، بينما تقف خلفه عربة إسعاف مدمرة، في مشهد صامت يعكس غياب العالم.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.