الديمقراطية حسب الطلب: كيف يُعيد الغرب تشكيل أنظمة الحكم في العالم العربي؟

يُكثر الخطاب الغربي من الترويج للديمقراطية كقيمة إنسانية عليا، ويضعها في صلب رسالته السياسية تجاه العالم. لكن حين نمعن النظر في تعامل الغرب مع الديمقراطيات الناشئة في العالم العربي، سرعان ما يتكشّف التناقض الفاضح: فحين تفرز صناديق الاقتراع قوى لا تروق لمصالح واشنطن أو باريس، تُطوى راية الديمقراطية فورًا، وتُطلق يد العسكر أو أدوات الفوضى لإعادة تشكيل الحكم وفق المعايير المطلوبة. هكذا، تتحوّل الديمقراطية من مبدأ إلى سلعة مفصّلة على الطلب، لا يُسمح بخروجها عن السيطرة.

ديمقراطية بشروط: القبول مرهون بالطاعة

في منطق القوة، لا تُدعم الديمقراطية إلا إذا أفرزت نظامًا منضبطًا ضمن الإطار الدولي المفروض، أي نظامًا لا يهدد المصالح الغربية، ولا يفتح أبوابًا لسياسات خارج المدار. أما إذا اختار الشعب مسارًا مختلفًا، فإن الديمقراطية تتحوّل فجأة إلى "فوضى"، والحكم إلى "تطرف"، وتبدأ آليات الحصار والعزل والتهيئة للانقلاب.

هذا ما جرى بدقة في حالة محمد مرسي، أول رئيس منتخب بعد الثورة المصرية، حيث لم يُمنح فرصة حقيقية للحكم، لا من الداخل ولا من الخارج، فقط لأنه لم يدخل اللعبة كما ينبغي.

مرسي: الديمقراطية الوحيدة التي لم يحتملها الغرب

رغم قدوم مرسي عبر انتخابات حرة غير مسبوقة، لم تحظ حكومته بأي غطاء دولي حقيقي. كانت واشنطن ترصد كل تحركاته بعين الشك، وتضغط عليه من أول يوم، وتمنحه وعودًا مشروطة بالدوران في الفلك الأمريكي.

حين رفض التعليمات المباشرة، وأبدى نية في فتح سياسات مستقلة، جرى تنظيم موجات إعلامية داخلية ضخمة لتأليب الرأي العام، وتضخيم كل خطأ، بينما جُهّزت المظاهرات كأداة ضغط لتبرير "الضرورة" العسكرية.

وفي اللحظة التي ظن فيها الإخوان أن الغرب سيحمي شرعيتهم طالما التزموا بالسلمية، سُحب البساط بالكامل، وتُركت الجماعة تُسحق تحت آلة القمع، في انقلاب ناعم وغليظ في آن واحد.

مفارقة صارخة: أنظمة مستبدة حليفة تُدعم بلا شروط

بينما أُسقط مرسي لأنه "لا يحكم الجميع" أو "يحتكر السلطة"، لا تزال أنظمة استبدادية متوارثة تحكم دولًا عربية أخرى بالدبابة والولاء، وتحظى بدعم سياسي وأمني واقتصادي واسع من نفس العواصم الغربية.

لم يسأل أحد عن برلمانات منتخبة، ولا عن تعددية حزبية، ولا عن مؤسسات رقابية. كل شيء يُغفر إن كنت حليفًا مطيعًا.

العراق وتفصيل الديمقراطية على مقاس الاحتلال

بعد غزو العراق، فُرضت "ديمقراطية طائفية" مشروطة بإطار أمريكي كامل: دستور مفروض، محاصصة مدروسة، ونظام سياسي يُنتج دائمًا نخبًا منقسمة ضعيفة. لم تكن الديمقراطية هنا مشروعًا شعبيًا، بل هندسة سياسية تضمن التفكك وغياب السيادة.

تونس: حين تصبح صناديق الاقتراع عبئًا على القوى الدولية

بعد سنوات من التجربة التونسية، وجدت النخبة الدولية نفسها عاجزة عن استيعاب الخيارات الشعبية. وحين بدأت القوى الشعبية تميل إلى اتجاهات لم تعد تناسب التوازنات الغربية، عاد الحديث عن "فشل الديمقراطية"، وظهر الانقلاب الدستوري المقنّع بقيادة قيس سعيّد، دون اعتراض دولي يُذكر.

فلسطين: الديمقراطية المحاصرة منذ 2006

فازت حركة حماس في انتخابات 2006 التي راقبتها مؤسسات دولية، وأقرت بنزاهتها. لكن النتيجة لم تُعجب الأطراف الغربية، ففُرض الحصار فورًا، وبدأت محاولات إسقاط الحكومة بالقوة، ثم عُزلت غزة عن الضفة، ولا تزال تدفع ثمن خيارها الديمقراطي حتى اليوم.

لماذا يُعاد تشكيل أنظمة الحكم من الخارج؟

  • لأن الديمقراطية لا تُقبل إلا إن كانت تابعة.
  • لأن النظام الحرّ يُنتج سياسات وطنية لا يمكن توقعها.
  • ولأن الغرب لا يريد "شعوبًا حرة" بل "أنظمة مستقرة مطيعة".

خاتمة: الديمقراطية في العالم العربي... بين التوظيف والتصفية

الدرس بات واضحًا: الديمقراطية لا تُحترم في العالم العربي إذا خرجت عن النص. من ينتخب ضمن سقف السيادة الغربية، يُهنّأ ويُدعم. أما من يحاول التحرر، فمصيره إما التآمر أو العزل أو السحق.
وفي هذا المشهد، لم تعد المعركة فقط من أجل صندوق الاقتراع، بل من أجل حق الشعوب في أن تُختار حريتها بدون إذن خارجي.

أحدث أقدم

ويجد بعد عنوان المقالة

📌