
الداخل الأمريكي: دولة على حافة الانقسام
لم تعد الانقسامات في الداخل الأمريكي مجرد تباينات حزبية بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل تحوّلت إلى تصدّع عميق في بنية المجتمع والدولة.
الاستقطاب السياسي بلغ مستويات خطيرة تهدد بزعزعة الاستقرار، خاصة مع تنامي الخطاب العنصري، والتشكيك في نتائج الانتخابات، وضعف الثقة في الإعلام والمؤسسات القضائية.
الأزمات الاقتصادية، من التضخم إلى أزمة الديون، فاقمت الشعور باللايقين الشعبي، بينما تصاعدت النزعات الانعزالية في أوساط شريحة واسعة من الأميركيين، ما يضعف الإجماع الداخلي الضروري لأي مشروع عالمي.
فشل المشاريع الخارجية: من كابول إلى كييف
منذ غزو العراق عام 2003، دخلت الولايات المتحدة سلسلة من التدخلات المكلفة التي أضعفت مكانتها بدل أن تعززها.
الخروج الفوضوي من أفغانستان لم يكن مجرد هزيمة عسكرية، بل كشف حدود القوة الأميركية حين تُواجه إرادات صلبة لا يمكن كسرها بالطائرات.
وفي أوكرانيا، ورغم الدعم الضخم لكييف، تتّضح ملامح المأزق الغربي في حرب استنزاف طويلة لا حسم فيها، وتكلفة استراتيجية باهظة.
حتى أدوات الضغط الناعمة – كالعقوبات – لم تُثمر في تحجيم خصوم واشنطن (روسيا، إيران، الصين)، بل عززت التكتلات المناهضة لها.
الصعود الهادئ للأقطاب المنافسة
في مقابل هذا التراجع، تبرز قوى أخرى تتقدّم بخطى حثيثة نحو مقاعد القرار الدولي.
الصين، بقوتها الاقتصادية والتكنولوجية، تبني نظامًا عالميًا بديلًا ببطء وثقة.
روسيا، رغم العقوبات والحصار، أعادت تعريف مفهوم "الردع" بأساليب جديدة.
الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا تنخرط في مشاريع استقلال استراتيجي بعيدًا عن وصاية الغرب.
المنظومات البديلة مثل "بريكس" و"شنغهاي" لم تعد مجرّد تكتلات رمزية، بل منصات لإعادة هندسة العلاقات الدولية.
من قيادة العالم إلى إدارة الانكماش؟
السؤال الأكبر لم يعد: هل تستطيع أمريكا فرض إرادتها على العالم؟ بل: هل تستطيع إدارة تراجعها دون انفجار داخلي أو انهيار خارجي؟
الإصرار على لعب دور الشرطي العالمي، مع تراجع أدوات السيطرة، يُدخل واشنطن في صدامات مُنهِكة لا رابح فيها.
القيادة تحتاج إلى شرعية داخلية، ورؤية استراتيجية، واستقرار طويل الأمد. وكلها عناصر باتت مهددة داخل الإمبراطورية الأمريكية المعاصرة.
خاتمة: تحوّل المركز إلى هامش
ربما لم تعد أمريكا في طريقها إلى الانهيار، لكنها بالتأكيد على طريق فقدان القيادة الأحادية للعالم.
والمفارقة أن منسوب الرفض العالمي لهيمنتها يزداد، لا بسبب ضعفها فقط، بل بسبب اتساع وعي الشعوب والدول بحقيقة "الوصاية الغربية" التي لطالما تزيّنت بشعارات الديمقراطية والحرية.
إننا نشهد لحظة تاريخية فريدة: خروج بطيء لإمبراطورية من المشهد، دون معركة فاصلة، بل بصمت استراتيجي يعكس تحوّلات عميقة في ميزان القوى العالمي.