الجبر السياسي: من يحكم فعليًا؟ النخبة المحلية أم المندوب الدولي؟

من الوهلة الأولى، يبدو أن الحاكم العربي هو صاحب القرار الأول والأخير في شؤون بلاده. تظهر صورته في المحافل الدولية، يوقّع الاتفاقيات، يُصدر القوانين، ويقود الجيوش. لكن خلف هذا المشهد البروتوكولي، ثمة سؤال جوهري لا يُطرح كثيرًا: هل يملك هذا الحاكم القرار السيادي فعلًا؟ أم أنه يتصرف ضمن هوامش مرسومة بعناية من قوى فوق وطنية؟

واجهات الحكم: حين تكون السيادة ديكورًا

كثير من الأنظمة العربية تقوم على شكل هرمي تقليدي، تتصدره نخبة سياسية أو عسكرية أو ملكية. لكن هذه النخبة، في حالات عديدة، لا تُنتج القرار، بل تُنفّذ ما تم التوافق عليه في غرف مغلقة مع سفارات كبرى، أو مراكز قرار خارجية، أو شركات ضغط دولية.

  • هل يمكن لحكومة عربية أن ترفض إملاءات صندوق النقد دون تبعات كارثية؟
  • من يضع أولويات السياسات الاقتصادية؟ من يحدد سقف الإنفاق والدعم؟
  • لماذا تصمت دول كاملة حين يُفرض عليها التطبيع أو التعاون الأمني الإقليمي؟

هنا تتضح الصورة: الحاكم المحلي غالبًا ما يكون مديرًا للمصالح الأجنبية داخل بلده، لا صانعًا لمصالح وطنية مستقلة.

من هو "المندوب الدولي" اليوم؟

في الماضي، كان المندوب السامي يمثل الاحتلال رسميًا. أما اليوم، فقد تعددت الأدوار:

  • السفير الأمريكي أو الفرنسي الذي يُنسّق الخطط الأمنية أو الاقتصادية.
  • مستشار البنك الدولي الذي يضع "روشتة الإصلاح".
  • الجنرال الأجنبي الذي يدير غرفة العمليات المشتركة "ضد الإرهاب".
  • الخبير الدولي الذي يضع مناهج التعليم ومضامين الإعلام.

هؤلاء لا يحملون سلاحًا ولا يرفعون علمًا، لكنهم من يُحدّدون الإطار الذي يتحرك داخله النظام.

النخبة المحلية: وظيفة الوسيط لا القائد

النخبة السياسية أو العسكرية الحاكمة في العالم العربي لا تعمل غالبًا كقيادة وطنية مستقلة، بل كوسيط بين الداخل والخارج، بين الإرادة الشعبية والإرادة الدولية. وظيفتها الأساسية ليست تحقيق السيادة، بل ضبط الداخل وفق شروط الخارج.

  • لذلك يتم اختيار النخب بناء على "قابليتها للتدويل" أكثر من شرعيتها الشعبية.
  • ولهذا السبب، غالبًا ما تكون أكثر عداءً للمجتمع منها للأطراف الأجنبية.

متى تحكم الدولة نفسها فعليًا؟

يمكن القول إن الدولة لا تحكم نفسها فعليًا إلا إذا:

  1. كانت قادرة على اتخاذ قرار استراتيجي دون إذن خارجي.
  2. استطاعت أن ترفض تمويلًا مشروطًا دون الانهيار.
  3. امتلكت إعلامًا حرًا قادرًا على مساءلة الحاكم لا تمجيده.
  4. استقلت في نظمها التعليمية والثقافية عن الهيمنة الغربية.
  5. أدارت مواردها وثرواتها وفق احتياجها الوطني لا وفق توجيه دولي.

وهذه المعايير تكشف كم من الدول العربية تحكم نفسها، وكم منها يُحكم من الخارج بأدوات محلية.

لماذا الصمت عن هذا الواقع؟

لأن الإقرار به يعني انهيار الأسطورة: "نحن دولة مستقلة".
يعني إدراك الشعوب أنها لا تُحكم باسمها، بل تُدار كأصول تابعة في بورصة المصالح الدولية.
يعني مساءلة الطبقة الحاكمة: هل أنتم وكلاء الوطن؟ أم موظفو الخارج؟
يعني إعادة تعريف السيادة من جديد، لا كعلم ونشيد، بل كإرادة حرة وقدرة فعل.

خاتمة: 

ليست المشكلة في وجود "نخبة حاكمة"، بل في من يصنع هذه النخبة، ولأي مشروع تخدم.
وحين تصبح مؤسسات الحكم واجهات فارغة، لا تعبّر عن الإرادة الوطنية بل تُدار ضمن معادلات خارجية، فإن السيادة تتحول إلى طيف، والحكم إلى وظيفة تنفيذية في منظومة أكبر.
هنا، يصبح الجبر السياسي واقعًا لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يحكم التفاصيل الكبرى: من السياسات الاقتصادية إلى التحالفات العسكرية، وحتى المناهج الدراسية.
وما لم تُفكّك هذه البُنية الجبرية، فإن الحديث عن "الاستقلال" يظل زيفًا مريحًا لا أكثر.

سلسلة: الجبر السياسي.. كيف يُدار العالم العربي

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡