التحالفات المتصدعة: هل انتهى عصر الهيمنة الغربية الموحدة؟

منذ نهاية الحرب الباردة، جرى تقديم "الغرب" ككتلة صلبة موحّدة تقود النظام العالمي سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، بقيادة أمريكية وتوافق أوروبي.

لكن السنوات الأخيرة، وتحديدًا مع تصاعد الأزمات العالمية، كشفت تصدّعات عميقة في بنية هذه الكتلة، تُهدد بتحوّل الغرب من محور مهيمن إلى تكتل متنازع، يبحث عن تماسك مفقود.

الناتو: تحالف عسكري يتآكل من الداخل

رغم اتساع نطاق حلف الناتو بعد أزمة أوكرانيا، إلا أن التوسّع لا يعني دائمًا قوة.
فداخل الحلف خلافات جوهرية:

  • تركيا تتبنى سياسات ميدانية لا تتقاطع دائمًا مع مصالح واشنطن.
  • فرنسا وألمانيا تُبديان ترددًا متزايدًا في الانخراط في الصدامات الأمريكية.
  • أوروبا الشرقية تطالب بتصعيد دائم، بينما أوروبا الغربية تبحث عن توازن.

بل حتى في حرب أوكرانيا، لا يوجد إجماع حقيقي حول الهدف النهائي، ولا حول سقف المواجهة مع روسيا.

الاتحاد الأوروبي: طموح اقتصادي بلا إرادة سياسية

كان يُفترض بالاتحاد الأوروبي أن يكون الذراع السياسي والاقتصادي الذي يُكمل الدور الأمريكي عسكريًا.
لكن الخلافات الداخلية، من الهجرة إلى الطاقة، ومن التعامل مع الصين إلى الموقف من إسرائيل، فضحت غياب رؤية استراتيجية موحّدة.
ولعلّ أبرز مظاهر التصدّع كانت في التعامل مع الحرب على غزة، حيث ظهرت انقسامات حادة بين دول تبرّر المجازر باسم "حق الدفاع"، وأخرى بدأت تُحرجها التبعية الأخلاقية لواشنطن.

مجموعة السبع: نادي الأثرياء في عالم فقير

لطالما كانت G7 أداة لتنسيق الهيمنة الاقتصادية على العالم، لكنها اليوم تبدو كأنها تكرار خطابي لتفاهمات شكلية.
في ظل صعود دول بريكس، وتوسّع الاقتصاد الصيني، وتراجع الفاعلية السياسية للغرب في إفريقيا وآسيا، لم تعد اجتماعات القادة الغربيين قادرة على فرض سردياتها القديمة.
بل إن دول الجنوب العالمي باتت تنظر إلى هذه الاجتماعات كمجالس نُخبة تحاول الحفاظ على امتيازات تاريخية لا تتوافق مع موازين القوة الجديدة.

التصدّع الأخلاقي: ازدواجية المعايير تفتك بالخطاب الغربي

إحدى أعمدة الهيمنة الغربية كانت "الشرعية الأخلاقية": الدفاع عن حقوق الإنسان، الحرية، القانون الدولي.
لكن هذا الخطاب انهار تمامًا بعد الحرب على غزة، حين دعمت أغلب العواصم الغربية مجازر موثّقة بحق مدنيين وأطفال.
أمام هذه الصورة، فقد الغرب ما تبقى له من مصداقية رمزية، حتى في عيون حلفائه الأصغر.
الهيمنة لا تُبنى فقط بالاقتصاد والسلاح، بل أيضًا بالخطاب. وهذا الخطاب تمزّق.

صعود الاستقلالية الأوروبية: بداية الانفصال الناعم؟

مع تصاعد التوترات العالمية، بدأت بعض القوى الأوروبية تعيد النظر في موقعها داخل المعسكر الغربي.
فرنسا تتحدث عن "استقلالية استراتيجية"، وألمانيا تسعى لتوازن بين بكين وواشنطن، بينما بدأت دول الجنوب الأوروبي تنجذب نحو الصين اقتصاديًا.
هذا لا يعني انهيارًا وشيكًا للتحالف الغربي، لكنه يشير إلى تحوّله من كتلة واحدة إلى فسيفساء من المصالح المتضاربة.

خاتمة: ما بعد المركز الواحد

التحالفات الغربية لم تنهَر تمامًا، لكنها فقدت صلابتها القديمة.
وفي عالم يتّجه نحو التعددية القطبية، لم تعد القيادة الغربية تبدو موحّدة، ولا مُقنعة.
الهيمنة الموحدة التي عرفها العالم منذ 1991 تُستبدل تدريجيًا بتوازنات متشابكة، وتحالفات مصلحية متغيرة.
ربما لم ينتهِ الغرب كقوة، لكنه فقد امتياز احتكار القيادة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.