حرب غزة: الطغاة المنتصرون لا يتفاوضون .. قراءة في طوفان الأقصى

الحلقة الأولى: لم تكن حرب غزة الأخيرة مجرّد معركة عسكرية أو جولة صراع اعتيادية، بل كانت اختبارًا كاشفًا لمعادلات طالما استقرّت في وعي الشعوب والأنظمة: معادلة القوّة، الردع، التفاوض، والمظلومية. فمنذ اللحظة الأولى لعملية "طوفان الأقصى"، اختلّت لغة الخطاب، واضطربت موازين التحليل. لم يعد السؤال: من سينتصر؟ بل: من سيجرؤ على الاعتراف بأن الطغاة حين ينتصرون لا يتفاوضون، بل يُمْلُون شروطًا، ويعيدون هندسة الواقع كما يشتهون.

الطغيان لا يُساوِم.. بل يُعيد تعريف القواعد

في الحروب التقليدية، تُفتح أبواب التفاوض حين يتعادل الطرفان، أو ينهكهما القتال، أو يشعر أحدهما بالحاجة إلى مخرج مشرّف. أما في حروب الطغيان، فإن المنتصر لا يطلب السلام، بل يفرض الاستسلام. وهذا بالضبط ما تجلّى في سلوك إسرائيل في حربها الأخيرة على غزة، حيث لم تكن تسعى إلى "ردع المقاومة"، بل إلى كسر البنية الاجتماعية لغزة، وتحطيم الإرادة الجماعية، ومسح كل أثر لفكرة التفاوض من الأساس.

عنف لا يُراد منه النصر بل الإبادة الرمزية

ما جرى في غزة لم يكن "ردًا" على عملية عسكرية، بل عقيدة متجذّرة في عقلية استعمارية ترى في الوجود الفلسطيني تحديًا لأسس مشروعها. لذلك، لم يكن هدف إسرائيل كسب الحرب عسكريًا فحسب، بل كسبها رمزيًا عبر تدمير كل مقومات الحياة، بما في ذلك الأطفال، المدارس، المستشفيات، والذاكرة الجماعية. في مثل هذا السياق، لا تُطرح أوراق تفاوض، بل تُرفع جثث، ويُعاد ترسيم ما تعنيه كلمة "نصر" في سياق غير متكافئ.

متى يتفاوض الطاغية؟ حين يُكسر

التاريخ يعلمنا أن الطغاة لا يتنازلون حين يشعرون بالقوة، بل حين تهتز قواعدهم من الداخل. وهنا تكمن المفارقة: كلما ازداد القتل، ازدادت القناعة بأن "المقاومة عبثية"، وكلما توسعت رقعة المجازر، قيل إن "لا حل إلا بالحوار". لكن الطغاة، إذا انتصروا، لن يصغوا لنداءات الحوار. التفاوض عندهم ضعف، والتنازل انتحار. وما يريده الطغاة هو توقيع الضحية على شروط خضوعها، لا التفاوض معها كندٍّ له كرامة.

الطوفان قلب المعادلة.. لكن الكفّة لم ترجح بعد

عملية "طوفان الأقصى" لم تكن انتصارًا تقليديًا، بل كانت محاولة جريئة لإعادة فتح معادلة مغلقة منذ عقود: أن الاحتلال آمن، وأن الردّ مستحيل، وأن التطبيع حتمي. لقد تمّ كسر الصورة، لا بالنتيجة العسكرية المباشرة، بل بإشعال زلزال معنوي ضرب أعماق المخيال الإسرائيلي والدولي. ومع ذلك، فإن استمرار المجازر يكشف أن الطرف الآخر لا يزال يعتقد أنه يستطيع طيّ صفحة الحرج الدولي بالقوة الوحشية، لا بالاعتراف المتبادل.

هل يمكن التفاوض بعد المجازر؟

هنا السؤال الأخلاقي والسياسي الأصعب: هل يبقى للتفاوض معنى بعد أن تُهدم البيوت على رؤوس أهلها؟ وهل يمكن الجلوس إلى طاولة الحوار مع من قرّر أن يمحوك من الخارطة؟ السؤال ليس عاطفيًا، بل استراتيجي: ما الفائدة من التفاوض حين يكون الطرف الآخر مقتنعًا أن ما لم ينله بالقصف، سيناله بالحصار؟ في مثل هذا المناخ، فإن كل مفاوضة تُصبح هدنة تكتيكية، لا حلًا دائمًا، وتُستخدم كاستراحة جلاد قبل الجولة التالية.

خاتمة: الكرامة لا تُفاوض

إن أخطر ما يمكن أن يقع فيه المقهورون، هو الاعتقاد بأن القاتل قد يُلزم يومًا بأخلاقيات التفاوض. في حروب الطغيان، لا تفاوض بلا كسر إرادة الطاغية. أما التفاوض من موقع الضعف، فهو ترسيخ لهزيمة معنوية تعمّق الخسارة. لقد دلّت حرب "طوفان الأقصى" على أن الكفاح ليس عبثًا، وأن المقاومة ليست خيارًا جنونيًا، بل هي الطريق الوحيد لتذكير العالم بأن الكرامة لا تُستعاد بالرجاء، بل بالرفض. أما الطغاة، فحين يظنون أنهم انتصروا، لا يفاوضون، بل يواصلون سحق من لا يزال يؤمن بالعدالة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.