حرب غزة: حين يتفاوض الطغاة: من النصر الساحق إلى المكاسب الممكنة

الحلقة الثانية: الاحتلال إلى التفاوض بعد فشل الحسم وسقوط وهم السيطرة

في الحروب الكبرى، لا يتفاوض المنتصر. هذه قاعدة التاريخ. لكن حين يتراجع زخم القوة، ويغرق المتغطرس في مستنقع الاستنزاف، يبدأ البحث عن "مكاسب" تفاوضية لتغطية الانهيار المعنوي واللوجستي. في ضوء ذلك، لم يكن انتقال الاحتلال الإسرائيلي نحو "مسار تفاوضي" بعد طوفان الأقصى تعبيرًا عن واقعية سياسية أو نزعة سلام، بل إقرارًا مبطّنًا بالفشل: فشل تحقيق النصر الساحق، وفشل فرض المعادلة بالقوة.

من الوعد بالحسم إلى واقع الغرق

منذ اللحظة الأولى، قدّم الاحتلال روايته للحرب بوصفها "معركة فاصلة لإنهاء حكم حماس"، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين بشّر بـ"تغيير واقع غزة إلى الأبد". لكن بعد شهور من القصف الهمجي، وتحت أنقاض آلاف الشهداء، بدأ الخطاب يتغيّر. لم تعد "إبادة حماس" هدفًا عمليًا، بل أصبح "تحرير الرهائن" غطاءً لمناورة تفاوضية. وهنا يتبدّل الموقع: من المهيمن الذي يُملي، إلى المتورّط الذي يبحث عن مخرج مشرّف.

مأزق الاحتلال: لا نصر ولا انسحاب

الاحتلال اليوم عالق في مفارقة قاتلة: لا يستطيع البقاء في غزة دون تكلفة دائمة، ولا يستطيع الانسحاب دون اعتراف بالهزيمة. لقد دخل الحرب بوهم "القبضة الحديدية"، فوجد نفسه يواجه حرب أنفاق، واستنزافًا مفتوحًا، وتآكلًا في صورته أمام العالم. لقد سقط وهم النصر، لكن القيادة الإسرائيلية لا تستطيع الاعتراف بذلك صراحة، فتلجأ إلى التفاوض كبديل شكلي لإعادة تعريف الإنجاز.

التفاوض كاستثمار للخسائر

ما يريده الاحتلال الآن هو تحويل الكارثة إلى "صفقة": هدنة طويلة، إخراج الأسرى، إعادة انتشار، وربما تشكيل سلطة محلية تُبعد المقاومة عن الحدود. إنه لا يفاوض لأنه اقتنع بحقوق الآخر، بل يفاوض لأنه فقد القدرة على فرض شروطه بالكامل. هنا يصبح التفاوض محاولة لربح سياسي من خسارة عسكرية، وتثبيت لواقع جديد دون الاعتراف بالعجز.

هل ما زال التفاوض ممكنًا في ظل المجازر؟

المفارقة أن هذا الانتقال نحو التفاوض لا يُبنى على اعتراف بجرائم الحرب، ولا على مراجعة أخلاقية. بل يجري وكأنّ المجازر كانت تفصيلًا عابرًا. فحين يتحدث الاحتلال عن "صفقة شاملة"، فإنه يقفز فوق آلاف الضحايا، ويدير ظهره للحقيقة الأخلاقية. التفاوض هنا ليس سلامًا، بل محاولة لتجميل وجه الطغيان بعد أن تشقق بالدم.

بين المكاسب التكتيكية والانسحاب الاستراتيجي

الاحتلال يعلم أنه خسر رهانه على سحق المقاومة، لكنه لا يريد الخروج صفر اليدين. لذلك يسعى إلى تثبيت مكاسب موضعية: مناطق عازلة، تهدئة طويلة، تفكيك لقدرات المقاومة. هذه ليست نتائج نصر، بل نتائج مأزق، وقد تكون مقدمة لهدنة زائفة تُمهّد لجولة تالية، لا لحل نهائي.

من يُفاوض؟ ومن يُمثّل؟ ومن يدفع الثمن؟

الخطير في المشهد الحالي ليس فقط توجه الاحتلال نحو التفاوض، بل محاولة إعادة صياغة المشهد الفلسطيني برمّته: إضعاف المقاومة، وإحلال جهات "مقبولة دوليًا" مكانها. هكذا لا يعود التفاوض حول وقف النار، بل حول هوية من يُمثّل الشعب الفلسطيني. إنها محاولة لاغتيال المعنى بعد قتل الجسد.

خاتمة: الطغاة حين يُفاوضون.. لا يعترفون بل يلتفون

حين ينهار المشروع العسكري، يلجأ الطغاة إلى اللغة الدبلوماسية، لا تراجعًا بل خداعًا. والتفاوض في هذا السياق ليس بحثًا عن عدالة، بل عن فرص لإعادة التمركز. لقد فشل الاحتلال في تحقيق نصر عسكري، وهو اليوم يبحث عن نصر شكلي يُسوّقه للداخل. لكن الوعي الحقيقي يبدأ حين ندرك أن كل جولة تفاوض لا تُبنى على محاسبة، إنما تُمهّد لجولة قادمة من الغدر.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.