الاستقرار.. المصطلح الذي يقتل الشعوب ببطء

قراءة نقدية في وظيفة المفاهيم المخدّرة في الخطاب السياسي

"الاستقرار" كلمة تبدو حميدة، بل محمودة، في ظاهرها. من ذا الذي يعارض الاستقرار؟ ومن لا يطمح إليه؟ لكن حين تتعمّق في استخدامها السياسي، تكتشف أنها واحدة من أكثر المصطلحات خيانةً للواقع، وأشدّها مراوغة في تضليل الوعي. فكم من شعب قُمع باسم "الاستقرار"، وكم من نظام استبدّ بشعبه تحت يافطة "الحفاظ على السلم الأهلي"، وكم من احتلال استُبقي لأنّ البديل "فوضى"! هكذا يتحول هذا المصطلح إلى غطاء ناعم لموت بطيء.

حين يتحوّل الاستقرار إلى عقيدة فوق الحقوق

الأنظمة السلطوية لا تمانع في أن تبقى بلا تنمية، أو بلا عدالة، أو بلا كرامة، لكنها لا تقبل أن تهتز صورتها أمام الداخل والخارج، لأن ذلك يهدد ما تُسمّيه "الاستقرار". هذه العقيدة تُقدّم على أنها مصلحة عليا تتجاوز كل معاناة، فتُبرَّر بها قوانين الطوارئ، وحملات الاعتقال، وشيطنة كل صوت حر. وكأن الشعوب خلقت لتُدار، لا لتقرر.

الاستقرار في الخطاب الدولي: غطاء للمصالح لا للسلام

حين يتحدث الغرب عن "دعم الاستقرار في المنطقة"، فإن المقصود غالبًا هو حماية المصالح الغربية، لا حماية حياة الشعوب. الاستقرار هنا لا يعني إنهاء الاحتلال، ولا وقف الاستبداد، بل ضمان أن لا يتأثر تدفّق الطاقة، ولا تتفلت الحدود، ولا ترتفع أصوات الشعوب أكثر من اللازم. لهذا كثيرًا ما يتم دعم أنظمة قمعية تحت عنوان "ضمان الاستقرار"، بينما تُقمع الثورات وتُخنق الحركات الشعبية.

من الاستبداد الناعم إلى القبر الصامت

أسوأ أنواع الموت ليست تلك التي تحدث فجأة، بل تلك التي تقع على مدى عقود: حين يُقمع الفكر، ويُراقب التعليم، وتُقتل المبادرة، وتُصنع طبقات من الصمت والإحباط. هذا ما تفعله الأنظمة حين تُلبس القمع لباس "الاستقرار"، فتجعل من الجمود سياسة، ومن الخوف نظامًا، ومن الرضا الإجباري شكلًا من أشكال الطاعة.

الوجه الآخر: كيف يصنع الناس أوهام "الاستقرار"؟

لا تتحمّل الأنظمة وحدها مسؤولية صناعة هذا الوهم. فثمة قطاعات من المجتمع تروّج لفكرة "الاستقرار أهم من الحرية"، و"لا نريد أن نصير مثل سوريا أو ليبيا"، فتتحوّل الكارثة في مكان آخر إلى أداة تخويف تمنع المطالبة بالحقوق. وهذا هو أخطر ما في المصطلح: حين يُستبطن في الوعي الشعبي بوصفه حائط صد ضد التغيير.

هل يمكن أن يكون هناك "استقرار عادل"؟

نعم، ولكن بشروط مختلفة تمامًا عن تلك التي تُفرض علينا اليوم. فالاستقرار الحقيقي لا يتحقّق بالقوة، بل بالمشاركة، ولا يبنى على الخوف، بل على الثقة. لا يمكن بناء سلم دائم فوق جثث المقهورين، ولا يمكن لمجتمع أن يتوازن دون عدالة، ومحاسبة، وكرامة. الاستقرار لا يعني الصمت، بل الاتساق الداخلي العميق بين السلطة والمجتمع.

خاتمة: الصمت المستقرّ.. هو الموت الذي لا يُدفن

في دولنا، قد لا تسمع انفجارات، ولا ترى دبابات، لكنك ترى العقول تُطفأ، والطاقات تُقمع، والإرادات تُكسر. هذا هو "الاستقرار" كما يُراد لنا أن نفهمه: قبضة ناعمة، تقتل بلا ضجيج. إنه ليس مجرد خطاب زائف، بل نظام متكامل من التخدير. فاحذر حين يقولون لك إن "الوضع مستقر"، فربما يكون هذا الاستقرار هو القبر الذي يُحضّر لك على مهل.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.