
لطالما قدّم التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي على أنه "خيار سيادي" أو "فرصة سلام" أو "ضرورة اقتصادية"، وارتدى عباءة التجميل السياسي عبر شعارات الازدهار والاستقرار والانفتاح. لكن مجازر غزة، التي أعقبت عملية "طوفان الأقصى"، لم تترك مجالًا للمناورة الخطابية، بل جرّدت هذا المشروع من زخرفه، وعرّت جوهره أمام الشعوب: إنه ليس سوى عقد إذعان، لا اتفاق ندية، ولا مشروع سلام.
ما بعد المجازر: أين يختبئ دعاة "السلام"؟
حين انهالت آلاف القذائف على رؤوس المدنيين، ودفنت الأطفال تحت الركام، غاب صوت الأنظمة المُطبِّعة، أو نطق بلغة باردة محايدة، وكأن الدم الفلسطيني لا يعني شيئًا. هنا انكسر القناع: من صمت على المجازر لا يمكن أن يدّعي الحرص على السلام. فالتطبيع الذي يُبنى على أنقاض الضحايا ليس سلامًا، بل شراكة في الجريمة، ولو بالتواطؤ بالصمت.
غزة تمتحن الخطاب لا فقط الموقف
العدوان على غزة لم يكن اختبارًا عسكريًا فقط، بل كان امتحانًا للخطاب السياسي العربي. من تبنّى رواية "حماس جرّت المنطقة إلى الفوضى" كشف موقعه بوضوح: ليس على هامش الحياد، بل في خندق إعادة إنتاج الرواية الصهيونية. وهنا تنكشف وظيفة التطبيع: إنه ليس مجرد علاقة دبلوماسية، بل إعادة صياغة وعي عربي يتماهى مع عدوّه.
التطبيع حين يُفرض على وعي الشعوب
ما أثبتته غزة أن الشعوب لم تهضم مشروع التطبيع، رغم سنوات من التمهيد الإعلامي والثقافي. خرجت المظاهرات في دول طبّعت رسميًا، وتفجّر الغضب في مواقع التواصل، وانكشفت الفجوة بين الأنظمة وشعوبها. فالمشكلة ليست في "رأي عام غاضب"، بل في أن البنية الأخلاقية للتطبيع انهارت، ولم يبقَ له من سند إلا البطش أو التجاهل.
من التجميل إلى التعرّي: التطبيع بعد فشل الترويض
الأنظمة المطبّعة حاولت سابقًا تبرير علاقاتها مع الاحتلال على أساس "تحقيق مكاسب"، أو "دعم القضية من الداخل". لكن المجازر الأخيرة أثبتت أن إسرائيل لا ترى في هذه الدول إلا أدوات تخديم سياسي، دون وزن فعلي أو احترام. وهكذا، انكشف زيف هذه الوعود، وبات واضحًا أن ما يُعرض على العرب ليس شراكة، بل تبعية.
سقوط التطبيع.. أم ارتداده؟
رغم العري السياسي، لا يعني هذا أن مشروع التطبيع سيتوقف تلقائيًا. على العكس، قد تسعى الأنظمة لتعميقه كخيار استراتيجي لحماية نفسها من شعوبها. لكن التغير الحقيقي وقع في الوعي: لم يعد التطبيع موضوع نقاش، بل موضع إدانة. غزة لم تُفشل المشروع رسميًا، لكنها سحبت منه شرعيته الرمزية أمام الشعوب.
خاتمة: حين يصمت الدم، ينطق الصدق
لقد مزّقت غزة كل أوراق التجميل السياسي التي حاولت الأنظمة استخدامها لتسويق التطبيع. لم يبقَ من المشروع سوى جسد عارٍ من المعنى، مكشوف أمام أعين الشعوب التي تدرك، رغم كل حملات التشويش، من يقف معها ومن يخذلها. وفي زمن الانكشاف، قد لا يتغير الواقع فورًا، لكن الوعي تغيّر، وهذا هو الشرارة الأولى لكل تحوّل كبير.