
العاطفة حين تُختطف
ما لا يُقال في السرديات السياسية التقليدية هو أن القهر لا يقتل فقط، بل يُشكّل وجدانًا. فحين تُربّى أجيالٌ في الخوف، وتُلقَّن منذ الطفولة أن الطاعة نجاة، وأن الشك خيانة، وأن النقد مؤامرة، فإنها تنشأ على نوع من الاستقرار العاطفي داخل السجن.
ويصير الخروج من القفص هو الخطر، لا القفص ذاته.
عندها لا تعود الأمة تميّز بين الحب والاعتياد، بين الأمان والاستعباد، بين الانتماء والاحتجاز.
سردية "الزعيم الضرورة"
واحدة من أكثر التجليات حدة لهذا المرض الجمعي هي تلك الشخصيات السلطوية التي تحكم عقودًا باسم "الضرورة". وحين تهوي، تُبكي جماهيرها التي كانت تشكو منها سرًّا.
لماذا؟
لأن النظام لا يحكم فقط بالسلاح، بل بالعاطفة المؤدلجة:
- يتم تصوير القائد كأبٍ لا يُخطئ
- والخوف منه كاحترام
- والفقر تحت حكمه كصبر
- والانهيار كحرب كونية عليه
يتم تفكيك العقل الجمعي من داخله، بحيث يتحوّل الجلاد إلى رمز، والمعتقل إلى منفى اختياري، والسوط إلى شعور بالدفء.
الإعلام.. وقود الاستوكهولم
تلعب أدوات السلطة، خصوصًا الإعلام والتعليم والخطاب الديني، دورًا أساسيًا في إعادة إنتاج متلازمة استوكهولم الجمعية.
فهي لا تبرر القمع فقط، بل تُعيد تشكيل اللغة ذاتها:
- لا يُقال "قُتل"، بل "استُشهد وهو يخلّ بالأمن"
- لا يُقال "سُرق الوطن"، بل "نُفّذت إصلاحات مؤلمة"
- لا يُقال "الزعيم دمّرنا"، بل "الزعيم حمانا من مصير أسوأ"
هكذا تُغتصب اللغة، وتُغتصب معها الذاكرة الجمعية، ويُعاد تكييف الشعور العام ليكره الحرية، ويعشق السجّان.
حين نثور ثم نندم
حتى الثورات لا تنجو من هذا المرض.
ففي لحظات الانفجار، تنهض الشعوب لتكسر القيد. لكنها سرعان ما تبدأ بالحنين إلى "الأمان السابق"، و"الاستقرار"، و"النظام".
هذا ليس وعيًا سياسيًا ناضجًا، بل ارتكاس عاطفي لطفلٍ فُجئ بانهيار الجدار الذي أسند رأسه إليه طويلًا، رغم قسوته.
ولهذا، كثير من الأنظمة تسقط جزئيًا ثم تعود، أو تسقط وتُستبدل بنسخة "ناعمة" منها. لأن الجذر النفسي لم يُقتلع بعد.
تفكيك المتلازمة يبدأ بالصدق
لن تخرج أمة من عباءة جلادها ما لم تعترف أنها تعلّقت به يومًا، وأنها برّرت له، وخافت من غيابه أكثر من وجوده.
التحرر ليس في إسقاط الحاكم فقط، بل في إسقاط البنية النفسية التي جعلت الأمة تقبله رغم كل شيء.
أن تعترف بأنك أحببت جلادك، لا يعني أنك ضعيف. بل يعني أنك تبدأ أول خطوة في التحرر من أسر الوهم.
خاتمة:
الأمم التي لا تُراجِع مشاعرها، تظلّ تُعاد تشكيلها من خارجها.
والحبّ حين يُسرق، يصير أداة قمع أخطر من كل الدبابات.
في داخلنا جلّاد نحتاج أن نكفّ عن التربيت على كتفه.
فلا تُحرّر نفسك من القيد، وأنت لا تزال تشتاق إلى صوته.