التطبيع العاطفي: حين نُجبر على احترام الخيانة

الخيانة ليست دائمًا طلقة في الظهر، بل قد تكون ابتسامة على شاشة، أو تصريحًا هادئًا باسم "السلام"، أو اصطفافًا سياسيًا تحت راية "الواقعية". الأخطر من فعل الخيانة هو ترويجها كفضيلة، وفرضها كخيار عقلاني لا مفرّ منه.

هنا تبدأ جريمة أكبر: تطبيع العاطفة مع الانكسار.
أن نُربّى على احترام الخائن، والاحتفاء بالمُطبّع، والتصفيق لمن صافح قاتلنا. ليس لأننا فقدنا البوصلة الأخلاقية، بل لأننا اُجبرنا على خلعها علنًا، كي لا نظهر كـ"متطرفين"، أو "ماضويين"، أو "حمقى لا يفهمون السياسة".

عندما تتحوّل الخيانة إلى مهنة راقية

في خطاب اليوم، تُسحب الخيانة من حقل "العار" إلى حقل "الحكمة السياسية":

  • من يطبّع مع العدو يُوصف بأنه "قائد شجاع"
  • من يُجاهر بالتنازل يُمنح ألقابًا دبلوماسية
  • من يخون الذاكرة الجماعية يُستدعى للمنابر، لا للمحاسبة

تصبح الخيانة وجهة نظر، ويصبح التمسك بالحق نوعًا من "الجمود التاريخي"، بل يوصم صاحبه بأنه عاطفي غير ناضج. هكذا يُقلب الوجدان العام، وتُفرغ المشاعر من جوهرها، وتُزرع بدائل هجينة تُخدر العقل وتُربك الضمير.

"واقعية" بلا كرامة: سلاح السلطة لترويض الشعوب

الأنظمة لا تكتفي بأن تخون، بل تُعيد هندسة وعي شعوبها كي تتصالح مع الخيانة.
ففي كل مرة تُعقد صفقة مشبوهة، أو يُطبّع مع محتل، أو تُباع قضية شعب، يخرج الإعلام ليُبرّر:

  • "الظروف لا تسمح بغير ذلك"
  • "هذه مصلحة عليا"
  • "لسنا وحدنا في هذا العالم"

بهذا يُحاصر المواطن أخلاقيًا. فإن اعترض، اُتهم بالغباء السياسي أو التحريض. وإن سكت، صار شريكًا ضمنيًا في خيانة مشاعره. أما إن حاول المقاومة، جُرّد من صفة العقل، وأُلحق بـ"الرافضين لكل شيء".

قلب الذاكرة: كيف يُعاد تشكيل التاريخ ليخدم الخائن؟

أخطر ما يفعله التطبيع العاطفي أنه يمحو الخطوط الفاصلة بين الحق والباطل.
يبدأ بتعديل الخطاب، ثم إعادة تأويل الوقائع، ثم تنميق صور الخونة، وتزييف نواياهم.

  • يتم تحويل الخيانة إلى "تفاهم"
  • والعدو إلى "جار مزعج لكن ضروري"
  • والدماء إلى "سوء تقدير قديم لا ينبغي أن نعلّق عليه حاضرنا"

وهكذا، يتحوّل الجلاد إلى شريك محتمل، وتُنسى جرائمه باسم المستقبل.

من العار إلى العرف: آليات ترسيخ التطبيع في الشعور الجمعي

هناك ثلاث أدوات رئيسية تُستخدم لنقل الخيانة من خانة الرفض إلى خانة التقبّل:

  1. الإعلام المتلوّن: يعيد سرد الأحداث بطريقة انتقائية، ويخلط بين العدو و"الآخر"، وبين التفاوض والانبطاح.
  2. التعليم المُشوَّه: يربّي الأجيال الجديدة على التسامح بلا سياق، وعلى تجميل الهزيمة كـ"تعايش"، وعلى طمس رموز الصمود لصالح رموز التفاهم.
  3. التدين المُدجَّن: يُجيّر الخطاب الديني ليشرعن الخنوع، ويُلبس الخيانة لباس الحِكمة الشرعية أو الضرورات المصلحية.

النتيجة: شعوب بلا غضب، بلا رفض، بلا حسّ

حين تنجح هذه الآليات، تنشأ أجيال لا ترى الخيانة خيانة، ولا تعرف الغضب النقي، ولا تحتمل الحديث عن الكرامة.
تصبح القضية عبئًا، والمقاومة تخلّفًا، والانبطاح "تحضّرًا".
يُقطع الحبل العاطفي مع القضايا، ويُترك الإنسان بلا مناعة وجدانية، هشًّا أمام كل استلاب جديد.

خاتمة: كي لا نصبح خونة بالقلب

الخيانة ليست فقط ما يُقال في المؤتمرات، بل ما يُزرع في القلب، ويُنتزع من المشاعر.
وحين تصير العاطفة نفسها مطبّعة، يصبح من الصعب أن نرفض، أو نغضب، أو نحلم.
المعركة اليوم ليست سياسية فقط، بل وجدانية أيضًا.
علينا أن نحمي وجداننا من التخدير، ونحفظ لأنفسنا حق الغضب، وكرامة الرفض.
فلا أسوأ من أن تُجبر على احترام من باعك.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.