الهروب سياسيا.. إلى جبهة تحت النار

لم تكن الضربات الإيرانية الأخيرة على عمق المدن الإسرائيلية حدثًا طارئًا في مسلسل التصعيد، بل كانت لحظة مفصلية فضحت عمق المأزق الذي يعيشه الكيان الإسرائيلي، وكشفت طبيعة اللعبة الخطيرة التي راهن عليها بنيامين نتنياهو:

إشعال الحرب لتثبيت الحكم، ولو احترق البيت بمن فيه.

لقد ظن نتنياهو أن بإمكانه استثمار الحرب كأداة تكتيكية لتحسين موقعه السياسي، فاختار التصعيد المباشر مع إيران، ليكتشف سريعًا أن النيران التي أشعلها ليست أداة ضغط... بل ارتدت عليه وعلى مجتمعه، واخترقت حصونه لأول مرة منذ قيام الكيان.


بين غزة وطهران: ليس هذا كالذي قبله

خلافًا لما اعتاد عليه الإسرائيليون في حروبهم المتكررة ضد غزة، لم تعد هذه المعركة محصورة في أطراف البلاد، ولا محدودة بزمن الصواريخ القصيرة وسرعة القبة الحديدية.
المشهد الآن مختلف جذريًا:

  • الصواريخ تسقط في عمق تل أبيب.
  • بعضها يُخترق إلى داخل الملاجئ.
  • القبة الدفاعية لم تعد تكفي أمام هذا السيل المُركّب.
  • آلاف الإسرائيليين يعيشون تحت الأرض، في حالة رعب حقيقي.
  • وهناك من بدأ الهروب سرًا إلى الخارج، في مشهد يُذكّر بأيام الحرب الوجودية لا السياسية.

    إنها ليست حربًا عابرة. إنها المرة الأولى التي يتذوق فيها الداخل الإسرائيلي طعم التهديد الذي لا يُحتوى إعلاميًا.


    ما الذي أراده نتنياهو؟

    في الظاهر: الدفاع عن أمن إسرائيل.
    في الحقيقة: إنقاذ موقعه السياسي المتآكل، وخلط أوراق الداخل الهائج منذ سنوات.

    لقد وجد في التصعيد مع إيران فرصة ذهبية:

    • لإعادة تعبئة الداخل الإسرائيلي حول "الخطر الخارجي".
    • لتبرير حرب غزة المفتوحة باعتبارها جزءًا من معركة إقليمية.
    • لفرض نفسه قائدًا للأمن والوجود، لا مجرد متهم بالفساد.

      لكنه أخطأ التقدير في جوهر اللعبة:
      أن إيران ومحورها لن يكتفوا بالرد الرمزي، ولن يقبلوا بإعادة رسم قواعد الاشتباك السابقة.


      حين يصبح الداخل جبهة مفتوحة

      الداخل الإسرائيلي لم يعد مكانًا آمنًا للمراقبة أو التحليل.
      بل أصبح ساحة اشتباك حقيقية، تضربها الصواريخ من السماء، وتخترقها الأسئلة من تحت الأرض:

      • أين الدولة التي أنفقت المليارات على الأمن؟
      • أين الردع الذي قيل إنه "لا يُخترق"؟
      • من يحمي المدنيين حين تصبح الملاجئ هدفًا لا ملاذًا؟

        وهكذا، يتحول المواطن الإسرائيلي من مشجّع في المدرجات إلى وقود مباشر للعبة سياسية قذرة، أدارها نتنياهو لإنقاذ نفسه، فغرقت بها الدولة.


        حسابات أمريكا... ليست خارج اللعبة

        أمريكا ليست ضحية مفاجأة، ولا بريئة من التورّط.
        بل هي الراعي الأعلى للمشهد، وإن بدت متحفّظة الخطاب.

        فحين قررت إسرائيل التصعيد، لم تكن تفعل ذلك وحدها.
        الإدارة الأمريكية تعلم المسار، وتدير الأزمة بميزان دقيق:

        • سمحت بالتصعيد التكتيكي لإبقاء إيران تحت الضغط.
        • دعمت إسرائيل بالمعلومات والسلاح، لكنها لم تتورط علنًا.
        • حرصت على مظهر الوسيط الهادئ، بينما بقيت خطوط التنسيق الاستخباراتي مفتوحة بلا توقف.

          الرسالة الأمريكية واضحة:

          اضربوا ما شئتم... لكن لا تجرّونا إلى حرب مفتوحة.
          نحن خلفكم استراتيجيًا، لكن إن سقطتم… فأنتم من قرر المواجهة.

          هذه ليست شراكة بريئة، بل إدارة مدروسة لحربٍ لا تريدها واشنطن كاملة، لكنها لا تمانع في استخدامها عند الحاجة.


          من "زعيم الأمن" إلى عبء الدولة

          نتنياهو الذي طالما قدّم نفسه حاميًا لإسرائيل من التهديدات الكبرى، هو نفسه من أدخلها في أخطر منعطف وجودي منذ نشأتها.
          إنه لا يقاتل من أجل أمن إسرائيل... بل يقاتل من أجل البقاء في الحكم.

          والمفارقة أن جزءًا كبيرًا من المجتمع الإسرائيلي لا يزال يتمسّك به، ليس حبًا في شخصه، بل لأن ماكينة التخويف التي رعاها لسنوات عطّلت أي بديل عقلاني.

          لكن اللحظة الحاسمة تقترب:

          • إذا استمرّ الداخل في الانهيار، فلن تُنقذه أسطورة الردع.
          • وإذا تصاعدت الضربات القادمة، فلن يحميه الدعم الأمريكي الرمزي.
          • وإذا استمر الخوف في التمدد، فحتى ملجأه السياسي سيتحوّل إلى عزلة.

          الخاتمة: حين تتوحّش اللعبة السياسية

          ليس كل من أشعل حربًا يملك قدرة إنهائها.
          وبنيامين نتنياهو، الذي ظن أن بإمكانه حياكة حربٍ تُنقذه من السقوط،
          هو اليوم رجلٌ أحرق البيت لإطفاء الحريق الذي التهم سمعته... فإذا بالنار تلتهم الجدران من حوله.

          قد لا تسقط إسرائيل غدًا، لكن سقفها تهشّم من الداخل.
          والرجل الذي ظن أنه يقود لحظة إنقاذ، قد يكون آخر من يغادر السفينة، بعد أن أغرقها بنفسه.

          *
          أحدث أقدم

          ويجيد بعد المقال