
من المقاومة إلى الدول: طبيعة الخصم تغيّر طبيعة المعركة
كل ما سبق من معارك إسرائيلية كان يجري ضد كيانات غير دولية: فصائل محاصرة، تنظيمات بلا غطاء جوي، مقاومات تعمل تحت الحصار. حتى عندما واجهت دولًا، كانت تلك الدول خاضعة لاتفاقيات أو أضعف بكثير من المواجهة الشاملة (مثل لبنان أو سوريا). لكن مواجهة إيران — كدولة ذات قرار، وصبر استراتيجي، وقوة إقليمية تمتلك أدوات الضرب والرد — فتحت على إسرائيل أبواب معركة لم تُختبر فيها من قبل: معركة مع خصم حر لا يُساوِم على استقلاله، ولا يتحرك ضمن الحسابات الإسرائيلية المعتادة.
الداخل الإسرائيلي: من منطقة آمنة إلى ساحة معركة
الضربة الإيرانية الأخيرة، رغم محدوديتها التكتيكية، كانت زلزالًا نفسيًا على الداخل الإسرائيلي. فجأة تعطلت الحياة، أُغلقت المطارات والموانئ، فُرضت قيود السفر، تهاوت الثقة بالملاجئ، ولجأ المواطنون إلى الهروب الجماعي عبر التهريب أو جوازات أجنبية. لم يكن المشهد في تل أبيب مختلفًا عن أي مدينة تُقصف في دولة منكوبة: صفارات، ذعر، ملاجئ مكتظة، توقف الأعمال، وارتباك حكومي. كانت تلك لحظة نادرة جدًا في تاريخ إسرائيل، حين تدخل الحرب إلى المدن لا الحدود، إلى البيوت لا المعسكرات.
لقد عاش المجتمع الإسرائيلي على وهم "الردع المطلق"، لكنه اصطدم فجأة بحقيقة أنه هو نفسه مهدد، وأن التفوق العسكري لا يمنع انهيار الأعصاب ولا يُعفي من التكلفة النفسية.
جيش بلا جبهة داخلية... وشعب بلا صبر
الجيش الإسرائيلي مدرَّب على الهجوم، على الردع السريع، على استنزاف العدو من بعيد. لكنه لم يُبْنَ لتحمل ضربات في عمق البلاد، ولا لحرب استنزاف طويلة تحت ضغط شعبي متململ. المواطن الإسرائيلي ليس مهيأً نفسيًا للعيش تحت الحرب، بل تربّى على أن جيشه "يردع قبل أن يُردَع". ولهذا، حين ظهرت أولى علامات العجز، بدأ التململ، ثم الفزع، ثم الهروب. وظهر أن إسرائيل لا تملك جبهة داخلية صامدة، بل مجتمعًا هشًا يقوم على الاستهلاك والراحة والضمانات الأميركية.
إسقاط الهيبة: قوة بالتحالف لا بالذات
أكبر ما كُشف في هذه المواجهة هو أن إسرائيل ليست دولة تملك قرارًا عسكريًا مستقلًا، بل هي ذراع متقدمة لمشروع أميركي في المنطقة. فحين ردّت إيران، لم تستطع تل أبيب التحرك إلا بموافقة واشنطن. وعندما تلكأت أمريكا في الرد أو امتنعت، وجدت إسرائيل نفسها محشورة في الزاوية: لا هي قادرة على الرد المنفرد، ولا هي قادرة على تحمل تبعات السكوت. وهكذا انكسر توازن الردع من حيث لم تحتسب: من داخلها، من فزع سكانها، من عجزها عن اتخاذ القرار منفردة.
حين تنهار المعادلة الاستراتيجية
كل نموذج الردع الإسرائيلي كان يقوم على قاعدة: "نحن نردع الجميع، ونضرب حيث نريد، ولا يجرؤ أحد على المساس بأمننا". لكن إيران فعلتها. والضربة لم تكن في خسائرها العسكرية، بل في رمزيتها: أن إسرائيل يمكن قصفها، ويمكن استنزافها نفسيًا، ويمكن حبس سكانها في الملاجئ، ويمكن تعكير نمطها الاقتصادي، بل ويمكن إدخال الخوف الاستراتيجي إلى عمق الدولة. وهذا ما لم يحدث من قبل.
الخلاصة: إسرائيل حين تُحارب حقًا
لقد دخلت إسرائيل للمرة الأولى في مواجهة حقيقية مع دولة تمتلك الإرادة، والقدرة، والسيادة. لم تكن الحرب قرارًا إسرائيليًا هذه المرة، بل فُرضت عليها. ولم تكن تحت سيطرة زمانية أو جغرافية، بل دخلت إلى عمق المدن، وزرعت الهشاشة في داخل البيت. هذا الحدث ليس عابرًا. إنه لحظة انكشاف تاريخية، لن تمحوه تهدئة ولا تسوّيها ضربة مضادة. فحين يُضطر شعبك للهرب عبر التهريب، وتغلق السماء والموانئ، وتنتظر إذنًا أميركيًا للرد، فإنك لم تعد القوة التي توهمت أنك إياها.