البولندي الذي يريد أن يحكم العالم العربي


نتنياهو ومشروع الهيمنة الصهيونية الجديدة

ليس مجرد زعيم سياسي. نتنياهو هو تجسيد حي لمرحلة استعمارية متجددة، يتقن لعبة القوة، ويتقن أكثر هندسة الانهيار العربي من الداخل. يظهر بمظهر السياسي البراغماتي، لكنه في العمق يؤمن أن إسرائيل ليست فقط "دولة طبيعية" وسط محيط عربي، بل أنها يجب أن تقود هذا المحيط. وما من وسيلة لتحقيق ذلك سوى تحويل العالم العربي إلى مساحة فارغة من الإرادة، مفككة البنى، مخصية السيادة، مهووسة بالأمن، ومستعدة للتحالف مع جلادها.

أولًا: من بولندا إلى تل أبيب – النشأة المشبعة بالأيديولوجيا

ولد بنيامين نتنياهو في عائلة صهيونية أصولها بولندية، مثقلة بأحلام الاستيطان، والتفوق القومي، والأسطورة اليهودية التي ترى أن التاريخ يجب أن يُعاد كتابته على يد "الشعب المختار".
لم يكن انتقال العائلة إلى فلسطين مجرد هجرة، بل كان تلبية لنداء المشروع الصهيوني الذي يرى أن وجوده لا يكتمل إلا بإلغاء الآخر، سواء جغرافيًا أو سياسيًا أو هوياتيًا.

فنتنياهو، خلافًا لبعض سابقيه، لم يُخفِ يومًا هذه النزعة. بل سعى إلى ترجمتها سياسيًا بوضوح شديد: ليس فقط بتوسيع الاستيطان، بل بتوسيع النفوذ، ليصل إلى الخليج، والسودان، وشمال أفريقيا.


ثانيًا: إعادة رسم الجغرافيا – نتنياهو كمهندس استراتيجي للفوضى

ما يجري في العالم العربي من تفكك، لا يمكن عزله عن شبكة التحركات الصهيونية التي استفادت، غذّت، وربما دفعت بهندسة ما سُمي بـ"الربيع العربي" نحو مآلاته الكارثية.
نتنياهو كان يرى أن فوضى محيطة بإسرائيل تعني "أمنًا استراتيجيًا طويل الأمد"، بينما الدولة الواحدة القوية (كالعراق، سوريا، مصر) تمثل تهديدًا لا يمكن التساهل معه.

ولذلك، نراه حاضرًا في كل مفترق:

  • في دعم الحركات الانفصالية،
  • وفي تأجيج الصراعات الطائفية عبر قنوات استخبارية وإعلامية،
  • وفي الترويج لصورة "إسرائيل كواحة استقرار" وسط عالم عربي مشوش.


ثالثًا: من الاحتلال إلى التحالف – اختراق العمق العربي

ما كان يُعد خيانة بالأمس، صار اليوم "مصالح مشتركة". هذا التحول لم يحدث من فراغ، بل كان نتنياهو أحد أبرز عرّابيه، حيث عمل على:

  • تسويق التطبيع كأمر واقع،
  • قلب المعادلة من "عدو وجودي" إلى "شريك في مواجهة الخطر الإيراني"،
  • تحويل القضية الفلسطينية إلى ملف أمني قابل للتهميش أو المساومة.

والنتيجة؟
أنظمة عربية تستضيف مسؤولي الأمن الإسرائيلي، وتنسق علنًا، وتفتح أجواءها، بينما يُقصف الفلسطينيون وتُهدم بيوتهم أمام شاشات العالم.


رابعًا: وهم التفوق الأخلاقي – كيف خدع نتنياهو الغرب والعرب معًا؟

نتنياهو لم ينجح عسكريًا فقط، بل إعلاميًا أيضًا. إذ نجح في ترسيخ ثلاث صور كبرى:

  1. إسرائيل ضحية وسط محيط معادٍ.
  2. إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في المنطقة.
  3. إسرائيل شريك يمكن الاعتماد عليه اقتصاديًا وأمنيًا.

هذه الصور لم تكن محض صدفة، بل صناعة دقيقة تم توجيهها للغرب، وأيضًا لجمهور عربي نُزعت منه بوصلته الأخلاقية، وصار يقيس المواقف بـ"مصلحة النظام" لا "عدالة القضية".


خامسًا: الديكتاتور الذي حكم طويلاً خلف ستار الديمقراطية

حين ننظر إلى بنيامين نتنياهو، فإننا لا نرى زعيمًا ديمقراطيًا في دولة ليبرالية، بل ديكتاتورًا عصريًا بارعًا في ارتداء قناع "الشرعية الانتخابية".
أكثر من 15 سنة في الحكم، عبر ثلاث فترات رئاسية متفرقة، جعلت منه أطول من تولى رئاسة الوزراء في تاريخ الكيان الصهيوني، ولم يكن ذلك بفعل الكفاءة، بل عبر هندسة معقدة للعبة السياسية، تحالفات مشبوهة، تحريض طائفي، واستثمار دائم في الخوف.

لقد صنع لنفسه نظامًا سياسيًا يتغذى على الأزمات: كلما اقتربت نهايته، أشعل حربًا أو فجّر خطابًا، ليعود بطلاً مزيفًا في أعين جمهوره.
وفي حين يفتخر الإعلام الغربي بـ"ديمقراطية إسرائيل"، يتجاهل أن هذا الرجل حكم أكثر مما حكم كثير من الطغاة العرب، لكنه فعل ذلك بلغة ديمقراطية مصنوعة، وشعبوية استيطانية ترى في الآخر عدوًا دائمًا، وفي الحرب فرصة لإعادة انتخابه.

نتنياهو هو الديكتاتور الوحيد الذي وافق عليه الغرب، لأنه لم يقمع شعبه فقط، بل ساهم في قمع شعوب المنطقة بأكملها.


سادسًا: هل حقًا يريد أن يحكم العالم العربي؟

قد يبدو السؤال ساخرًا، لكن سلوك نتنياهو يُظهر طموحًا أبعد من حدود الجغرافيا الفلسطينية.
هو لا يريد مجرد حدود آمنة لإسرائيل، بل يريد:

  • أن يتحكم في حركة القرار العربي،
  • أن يُطبع وجود إسرائيل كقوة فوقية إقليمية،
  • أن يُنهي أي صوت يعارضه داخليًا أو خارجيًا.

بمعنى آخر، مشروع نتنياهو لا يهدف فقط إلى تدمير المقاومة، بل إلى تدمير فكرة الرفض نفسها، عبر تعميم اليأس، وتزييف الواقع، وتحويل العدو إلى قدر يجب التعايش معه.


سابعًا: المقاومة ليست فقط سلاحًا – بل وعيٌ استراتيجي

إن أخطر ما فعله نتنياهو ليس اغتيال القادة ولا قصف البنى التحتية، بل اغتيال الوعي الجمعي العربي.
جعل من الصهاينة "جزءًا من الحل"، ومن الفلسطينيين "عبئًا معرقلًا".
لكن الحقيقة التي يحاول طمسها هي أن إسرائيل – تحت قيادته – لا تريد السلام، بل الهيمنة، ولا تسعى للتطبيع، بل للترويض.


ثامنًا: عالق في الوحل – زعيم بلا مخرج

رغم كل ما فعله، ورغم محاولاته المستميتة لترسيخ نفسه كقائد تاريخي لإسرائيل، يجد نتنياهو نفسه اليوم في لحظة انكشاف.
فبعد أكثر من ثمانية أشهر على حربه الوحشية على غزة، لم يحقق شيئًا يُذكر سوى الدمار والعار. فالمقاومة لا تزال حية، وصور المجازر تطارده في المحافل الدولية، والتحالفات الإقليمية التي كان يفاخر بها بدأت تتململ بصمت.

دخل الحرب بشهوة الانتصار وسقط في فخ الاستنزاف. وعد بالإطاحة بـ«حماس» خلال أسابيع، فوجد نفسه غارقًا في وحلٍ سياسي وعسكري لا يملك خارطة خروج منه.
حتى في الداخل الإسرائيلي، تتآكل شرعيته: احتجاجات، تمرد في صفوف الجيش، وانقسامات حادة بين معسكراته اليمينية، ناهيك عن ملفات الفساد التي ما زالت تلاحقه.

إن نتنياهو اليوم لا يحكم إسرائيل بقدر ما يحتجزها رهينة لطموحه الشخصي. يطيل أمد الحرب لأنه يدرك أن نهايتها قد تكون نهايته.
لكن العالم بدأ يرى الحقيقة: هذا الرجل الذي أراد أن يظهر كمهندسٍ لنظام إقليمي جديد، تبيّن أنه مجرد مقامر سياسي، ألقى بكل أوراقه في ميدان واحد، فخسر الرهان ولم يعد يملك حتى شرف التراجع.


الخاتمة: حين ينكسر القناع وتسقط الرواية

بنيامين نتنياهو ليس مجرد شخصية سياسية مثيرة للجدل، بل هو خلاصة مرحلة كاملة من المشروع الصهيوني الذي انتقل من الاحتلال العسكري إلى الطموح الإقليمي، ومن خطاب البقاء إلى خطاب السيادة.
لكنه وهو في قمة غروره السياسي، سقط في فخ أكبر من قدراته: أراد أن يُثبت للعالم أنه لا يُهزم، فإذا به يتعثر في غزة، ويُحاصر بأزماته، وتبدأ شرعيته بالتآكل أمام أعين العالم.

ما لم يفهمه نتنياهو هو أن الإنسان العربي – رغم كل الانقسامات – لا يزال يحتفظ في أعماقه بذاكرة رافضة، وروح لا تُروض.
وأن الكيان الذي بُني على أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر» أصبح اليوم رهين مقاومة لا تملك سوى الإرادة.

لقد أراد أن يحكم العالم العربي من بوابة القوة، فوجد نفسه محاصرًا من الداخل والخارج، بلا نصر، وبلا مستقبل.
وفي النهاية، لن تُسقطه المعارك وحدها، بل سيسقط حين نستعيد نحن أدواتنا: الوعي، والكرامة، والرؤية.
فمن لا يعرف عدوه كما ينبغي، قد يُهزم من وهمه أكثر مما يُهزم من سلاحه.

أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال