
فما هو سر هذا الحضور؟
وكيف نجحت قطر في أن تتحول من دولة هامشية إلى وسيط دائم، ومؤثر خفي، ومحلّ ارتياب دائم في آنٍ واحد؟
في لعبة الأمم، لا يلزمك أن تكون كبيرًا لتؤثر، بل أن تعرف أين تقف، ومتى تتحرك، ومع من تتقاطع المصالح. وقطر تُجيد هذه اللعبة.
سياسة التناقض الذكي: بين القواعد الأمريكية والدبلوماسية الإيرانية
من يراقب السياسة الخارجية القطرية يدرك أنها لا تقوم على التحالف المطلق، بل على التموضع المتغيّر وفق الحاجة.
- تستضيف أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط (قاعدة العديد).
- وتحافظ في الوقت ذاته على علاقات دافئة مع إيران، وتتفادى خطاب العداء المباشر لها.
- تدعم الفصائل الإسلامية في أكثر من ساحة (غزة، ليبيا، سوريا سابقًا)، وتستضيف قياداتها.
- لكنها في الوقت ذاته تُقدّم نفسها وسيطًا نزيهًا بين أمريكا وطالبان، وبين حماس وواشنطن، وحتى بين أطراف النزاع السوداني مؤخرًا.
هذه القدرة على اللعب على حبال التناقضات دون السقوط ليست ارتجالًا، بل سياسة خارجية محسوبة، تقوم على قاعدة:
"لا نُواجه أحدًا، بل نُساير الجميع ونصوغ منفذًا لهم من المأزق."
الحضور عبر الإعلام: قناة الجزيرة كأداة سيادية
لم تُصدّر قطر جيوشًا، بل صدّرت سرديات. وقناة الجزيرة، منذ تأسيسها عام 1996، لم تكن مجرد مؤسسة إعلامية، بل ذراعًا استراتيجية لصياغة الوعي الإقليمي والدولي.
- دعمت خطاب الثورات حين لزم الأمر.
- وفتحت الهواء لأصوات المعارضة في كل مكان... عدا الداخل القطري.
- واستخدمت قدرتها على صناعة العناوين لتكون فاعلًا سياسيًا موازيًا للخارجية القطرية.
والنتيجة؟ صار على كل لاعب إقليمي أن يأخذ قطر بالحسبان، لا بسبب جيشها أو اقتصادها، بل بسبب قوتها الرمزية والإعلامية.
الوساطة كاستراتيجية: لا طرف في المعركة، بل بوابة للخروج منها
لعبت قطر دور الوسيط في:
- مفاوضات طالبان – أمريكا.
- إطلاق سراح رهائن في غزة ولبنان وسوريا.
- التهدئة بين فصائل فلسطينية.
- الملف النووي الإيراني (قنوات خلفية).
- أزمة السودان وأوكرانيا (كممر لرسائل إنسانية ودبلوماسية).
لكن الوساطة القطرية ليست مجرد وساطة "إنسانية"، بل وساطة مدروسة تخدم مكانة قطر في المعادلة الدولية، وتجعل من الدوحة محطة لا يمكن تجاوزها في أي أزمة معقّدة.
كيف تنظر الدول الأخرى إلى قطر؟
- السعودية والإمارات: ترى فيها لاعبًا مفرطًا في الطموح، يتدخل في الملفات التي تَعدّها ضمن مجالها الحيوي. ولهذا حصلت أزمة الحصار في 2017.
- إيران: تنظر لقطر كشريك لا يشكّل تهديدًا، وتستفيد من علاقتها بها لتفكيك الحصار الجيوسياسي عليها.
- تركيا: تُعد الدوحة حليفًا اقتصاديًا واستراتيجيًا، وشاركت في دعم قطر عسكريًا خلال الأزمة الخليجية.
- واشنطن: تنظر لقطر كدولة وظيفية موثوقة، تستضيف القاعدة وتنفّذ مهام الوساطة حين يُراد تجنّب الظهور الأمريكي المباشر.
قطر إذن ليست "محايدة"، بل تُدير موقعها من الجميع بحذر، لتبقى ضرورية في أي تسوية.
الخلاصة:
السياسة القطرية قائمة على فلسفة الأثر بلا صدام، والتأثير عبر القنوات الرمزية لا العسكرية.
قد لا تكون قطر صانعة قرار في القضايا الكبرى، لكنها تُجيد أن تكون الحلقة التي لا تُستكمل الصفقة بدونها.
هي لاعب صغير، لكن في ساحة مُنهكة بالصراعات، الصوت الهادئ يُسمَع أعلى من الضجيج.