/* لإخفاء احرف من عناوين الصفحات */

التقويم الهجري: رمزية التاريخ الإسلامي ودوره المحوري في التشريع والهوية الحضارية

التاريخ الهجري: أكثر من مجرد بداية سنة : 

مع بداية كل سنة هجرية، لا يجدر بنا أن نكتفي بتذكر مناسبة تاريخية فقط، بل يجب أن نعيد النظر في ماهية هذا التقويم ودوره العميق في بناء الهوية الإسلامية والوعي الزمني للمسلمين عبر القرون. التاريخ الهجري ليس مجرد حسابات زمنية أو بداية عام جديد، بل هو ركيزة حضارية تحمل رموزًا سياسية وفكرية، ومرجعًا تشريعيًا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأبعاد الدين الإسلامي.

التقويم الهجري ورمزيته

اختيار الهجرة النبوية نقطة انطلاق لهذا التقويم يعكس وعيًا استراتيجيًا عميقًا. الهجرة ليست حدثًا عابرًا في التاريخ الإسلامي، بل هي لحظة تأسيس دولة ومجتمع جديد، قام على مبادئ العدالة والحرية والدين، في مواجهة قوى الظلم والاضطهاد. من هنا، أصبح التاريخ الهجري رمزًا للانتصار على الطغيان، وللانطلاق في بناء مجتمع جديد.

استخدام التقويم القمري بدلاً من التقويم الشمسي كان أيضًا له دلالاته، حيث استمد الإسلام نظامه الزمني من إيقاع الطبيعة الذي لا يخضع لتقلبات الفصول الثابتة، ما يعكس روح التجديد والتنوع في حياة المسلمين. وتحرك الشهور القمرية عبر الفصول هو تجسيد حي لطبيعة العبادة الإسلامية التي لا ترتبط بزمن ثابت، بل تتغير باستمرار، وهو أمر فريد مقارنةً بالتقويمات الأخرى.

التقويم الهجري والتشريع الإسلامي

التقويم الهجري ليس مجرد وسيلة للعدّ الزمني، بل هو إطار زمني لتحديد مواقيت العبادات الشرعية، كالصيام، والحج، والصلاة. شهر رمضان، الذي يتحرك عبر الفصول بسبب التقويم القمري، يعيد للمسلمين تجربة الصيام في ظروف مختلفة عبر السنوات، ما يخلق توازناً بين العبادة والواقع الحياتي.

كما أن الحج، أحد أركان الإسلام، له أوقات محددة بدقة وفقًا للتقويم الهجري، مما يعكس ارتباط الزمن بالعبادة والروحانية، ويؤكد أن الدين الإسلامي نظم حياة الإنسان في إطار زمني دقيق ومتجدد.

التاريخ الهجري كرمز سياسي وحضاري

في أوج الدولة الإسلامية، كان التقويم الهجري هو التقويم السائد في مناطق شاسعة من العالم، من الأندلس غربًا إلى الهند شرقًا. هذا التوسع لم يكن فقط جغرافيًا، بل كان حضاريًا وثقافيًا، حيث نشأت عبره العلوم والفنون والآداب، وكان مرجعًا للعلماء والفلاسفة والسياسيين.

في تلك المرحلة، مثّل التقويم الهجري مؤشرًا على وحدة الأمة الإسلامية، وهوية سياسية متماسكة، وقدرة على فرض نفسها كقوة حضارية كبرى. حتى بعد تراجع قوة الدولة الإسلامية، ظل التقويم الهجري حاضراً كرمز للتراث والهوية، ويعكس استمرارية الوعي التاريخي والروحي.

إعادة النظر في أهمية السنة الهجرية اليوم

مع التحولات الكبرى التي يشهدها العالم الإسلامي اليوم، باتت بداية السنة الهجرية مناسبة لإعادة تأمل دور التاريخ والهُوية الإسلامية، وربط الماضي العميق بالحاضر المليء بالتحديات. ليست مجرد ذكرى تقويمية، بل هي دعوة لإعادة بناء الذات، وتجديد الوعي الجمعي، والتمسك بالقيم التي أرستها الهجرة النبوية، من عدل، وتضامن، وصبر، ومواجهة للظلم.

إن استيعاب الرمزية العميقة للتقويم الهجري ودوره في التشريع والعبادة، يضعنا أمام مسؤولية فهم جذورنا التاريخية، وكيف يمكن لهذه الجذور أن تكون مصدر قوة حقيقية في مواجهة الأزمات المعاصرة.

أحدث أقدم