الدولة الفلسطينية القادمة بعد زوال إسرائيل: ملامح مشروع تحرري جديد

حين يُطرح سؤال الدولة الفلسطينية "بعد زوال إسرائيل"، نحن لا نتحدث عن سيناريو خيالي، بل عن احتمال استراتيجي بدأ يتسلل إلى عقول الكثيرين مع تفكك صورة إسرائيل كقوة لا تُقهر، وتصاعد التناقضات الداخلية فيها، وتآكل شرعيتها الأخلاقية والوظيفية. هذا السيناريو يُعيد القضية الفلسطينية إلى أصلها: لا كصراع حدود، بل كتحرر من استعمار إحلالي. فكيف تبدو ملامح هذه الدولة؟ وما هو شكلها السياسي، وهويتها، ووظيفتها الحضارية في مرحلة ما بعد الكولونيالية؟

فلسطين الكاملة: جغرافيا تعود لوحدتها

الدولة القادمة لن تقوم على "جزء" من فلسطين، بل على فلسطين كلها: من البحر إلى النهر. الأرض التي مزقها الاحتلال بجدرانه، وقسمها بالحدود الوهمية، ستعود إلى وحدتها الطبيعية: الجليل، والنقب، والضفة، وغزة، ويافا، والقدس، واللد، وعكا... كلها تشكّل نسيجًا حضاريًا وجغرافيًا واحدًا. عاصمة هذه الدولة ستكون القدس، لا باعتبارها مجرد رمز ديني، بل نقطة توازن حضاري بين الشرق والغرب، بين السماء والتاريخ.
 

هوية الدولة: تحررية تعددية لا قومجية ولا طائفية

الهوية الجامعة لن تكون طائفية أو قومية منغلقة، بل تحررية إنسانية تستند إلى جذور الأرض والتاريخ. الدولة الفلسطينية بعد زوال المشروع الصهيوني ليست دولة انتقام، بل مشروع حضاري يعيد التوازن إلى المنطقة. ستكون دولة قائمة على العدالة والمواطنة، لا على نماذج الإقصاء أو الاستئثار. من تبقى من سكان الأرض من غير المتورطين في المشروع الاستعماري سيُعاملون على قاعدة الحقوق الفردية لا الامتيازات العرقية.
 

عودة اللاجئين: ليس حقًا فقط بل تأسيسًا جديدًا للدولة

عودة اللاجئين ليست تفصيلًا إنسانيًا، بل هي الركن المؤسس للدولة القادمة. الملايين الذين أُقصوا عن أرضهم بالقوة سيعودون لا كضيوف، بل كصنّاع دولة. العودة لا تعني فقط استرجاع منازل، بل استعادة الوعي والتاريخ والدور. ستُعاد هيكلة المدن، وتُوزع الأراضي بعدالة، وتُفتح صفحة جديدة من العمران الفلسطيني على أرضه.
 

تفكيك البنية الاستعمارية: لا استمرار لمؤسسات الكيان

الدولة الفلسطينية لا يمكن أن تُبنى على أنقاض إسرائيل بالمعنى الإداري فقط، بل يجب أن تُفكك بنيتها كاملة: الجيش، الأجهزة الأمنية، البنية القانونية العنصرية، ومفاهيم السيطرة. ليست المهمة استيعاب "الإسرائيليين" بل تفكيك المشروع الصهيوني كفكرة وسلوك وبنية. هنا نعيد تعريف "العدالة الانتقالية"، لا كغفران مجاني، بل كتحرير شامل من بقايا الاستعمار.
 

الاقتصاد: استقلال حقيقي لا تبعية ولا ريع

الدولة الجديدة ستتأسس على قاعدة اقتصاد منتج مستقل، ينطلق من موارد فلسطين الحقيقية: الزراعة، الطاقة، البحر، الموقع الجغرافي، الكفاءات البشرية. سيتم التحرر من اقتصاد الريع والمساعدات، ومن السوق المرتبط بالاحتلال. ستُبنى البنية التحتية على أسس التخطيط طويل المدى، مع استعادة الأرض والمياه والحدود والمعابر والسيادة الاقتصادية.
 

حرية الملاحة برًا وجوًا: استعادة السيادة الكاملة

في قلب مشروع الدولة الفلسطينية القادمة يكمن أحد أبرز رموز السيادة الحقيقية: حرية الملاحة، برًا وجوًا وبحرًا. طوال العقود الماضية، كانت فلسطين محرومة من أبسط حقوقها السيادية: لا مطارات، لا موانئ حرة، ولا طرق دولية مفتوحة دون إذن من الاحتلال.

أما في فلسطين المحررة، فستُستعاد السيطرة على المعابر، وتُبنى موانئ بحرية مستقلة على شواطئ غزة ويافا، وتُفتتح المطارات، ويُزال الجدار، وتُفتح السماء أمام الطيران الوطني. لن يُمنع الفلسطيني من السفر ولا يُحتجز عند الحواجز. حرية الملاحة ستكون التعبير العملي عن انتهاء الوصاية وقيام الدولة فعليًا.
 

القدس: قبلة مقدسة للحج وشدّ الرحال

في الدولة الفلسطينية القادمة، لن تكون القدس مجرد "عاصمة سياسية"، بل ستُستعاد كقبلة روحية وثقافية للأمة. المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، سيُحرّر من قبضة الاقتحامات، ليعود كما كان: محجًا حرًا لكل من شدّ إليه الرحال. وستُستعاد مواسم الرباط والاعتكاف، وتُفتح كنيسة القيامة وسائر المقدسات بكرامة وأمان.

لن تكون زيارة القدس تطبيعًا، بل صلة شرعية مع أرض الرسالات. ستعود القدس مركز إشعاع معرفي وثقافي، تُقام فيها المؤتمرات العلمية، وتُكتب فيها الرؤى، وتُصاغ منها الرسائل، لا تُراق فيها الكرامة.
 

الجيش: حماية لا قمع

الجيش في الدولة الفلسطينية القادمة لن يُعاد إنتاجه كأداة قمع داخلي، بل كقوة دفاعية تحمي السيادة وتمنع تكرار الاستعمار. سيكون منضبطًا بالقانون، خاضعًا للسلطة المدنية، يحفظ كرامة المواطن، ويصون الدولة لا أن يتغوّل عليها.
 

العدالة: تصالح لا تصفية

العدالة في هذه الدولة ستكون فعل شفاء، لا فعل انتقام. من لم يتورط في القتل والجرائم سيُعامل بإنسانية، ومن شارك في جرائم حرب سيُحاسب بالقانون. ستكون هناك مصالحة مبنية على الحقيقة والاعتراف، لا على النسيان أو المساومة.
 

الخاتمة: فلسطين القادمة مشروع حضاري بعد نهاية كيان عنصري

الدولة الفلسطينية بعد زوال إسرائيل ليست استبدال عَلَم بآخر. إنها لحظة مفصلية في التاريخ العربي والإسلامي والعالمي، تُنهي قرنًا من الظلم، وتفتتح مشروعًا جديدًا للعدالة والتحرر. ليست utopia حالمة، بل مشروع تحرري عقلاني، ينهض على إرث الشهداء والمبعدين، ويؤسس لشرق متوازن يعيد للإنسان كرامته وللتاريخ بوصلته.

أحدث أقدم