
التحول من الغزو العسكري إلى الغزو الإدراكي
لطالما كانت السيطرة على الأرض غاية الحروب الكلاسيكية، أما اليوم، فقد صارت السيطرة على الإدراك هي المقدّمة الضرورية للسيطرة على الأرض والثروات. يتم ذلك عبر أدوات ناعمة لكنها شديدة الفاعلية، مثل:
- التلاعب بالسرديات الإعلامية : حيث تُزرع رواية معينة باعتبارها "الحقيقة"، ويتم إعادة إنتاجها بوسائل متعددة حتى تصبح وعيًا عامًا. تُختزل القضايا في رموز وشعارات عاطفية، وتُشيطن فئات وأفكار دون أن يُتاح للجمهور مساحة نقد أو مراجعة.
- هندسة المفاهيم : يُعاد تعريف مفاهيم مثل "الحرية"، "الديمقراطية"، "حقوق الإنسان" وفق قوالب غربية تخدم الهيمنة. يتم إقناع الشعوب المستعمَرة سابقًا بأنّ خلاصها يكمن في أن تتشبه بمستعمرها.
- تطويع التعليم والإنتاج الثقافي : فالمناهج تُصاغ لتصنع نموذج الإنسان المستسلِم، وتُستبدل القدوات، ويُعاد تشكيل الذاكرة الجمعية لتنسى المعارك الحقيقية وتقدّس المسوخ الرمزية.
من يحتل من؟ العقل المستعمر قبل الجغرافيا
إنّ أخطر ما في هذه الحروب أنها تجعل الشعوب تتبنى المنظومة التي تستعبدها طوعًا. يُعاد ترتيب سلم الأولويات بحيث تصبح الهوية عبئًا، والمقاومة تخلّفًا، والتمرد على الظلم إرهابًا. وهنا، يصبح "الاحتلال" حالة عقلية قبل أن يكون واقعًا سياسيًا.
الحرب على فلسطين: النموذج الأوضح
قضية فلسطين هي مختبر تطبيقي لهذه الحرب. لعلّ أحد أبرز أسباب استمرار الاحتلال رغم فشله الأخلاقي والسياسي والعسكري، هو نجاحه في كسب "الحرب على الرواية". لم ينتصر بالسلاح، بل انتصر عبر سردية محكمة، دعمتها آلة إعلامية دولية ضخمة، وعبر تطبيع الوعي العربي ذاته، حتى باتت مفردات المحتل تُتداول في إعلام الضحية دون وعي.
الذكاء الاصطناعي كجبهة جديدة للحرب
اليوم، مع تصاعد دور الخوارزميات والمنصات الذكية، تتعمق هذه الحروب بصيغ أكثر دقة وخفاء. يُوجَّه المحتوى بما يخدم توجهات معينة، تُستهدف الجماهير بالرسائل المخصصة، وتُستثمر البيانات لإعادة تشكيل ميولهم السياسية والدينية والاجتماعية دون أن يشعروا.
خاتمة: الوعي مقاومة
في هذا المشهد المعقّد، يصبح امتلاك الوعي النقدي وتفكيك السرديات وفضح أدوات الهيمنة هو خط الدفاع الأول. فالحرب اليوم ليست فقط على الأرض، بل على الذاكرة، واللغة، والقيم، والمعنى نفسه.
وإن كانت الجيوش قد انسحبت من أبواب المدن، فإن جيوشًا أخرى تدخل عبر الشاشات إلى غرف النوم، تزرع الهزيمة في النفوس قبل أن تطلق رصاصة واحدة.
إنها حرب بلا جيوش، لكنها أشد فتكًا من كل الحروب.