/* لإخفاء احرف من عناوين الصفحات */

فلسطين بين الجغرافيا المقدسة والهندسة السياسية

منذ قرن مضى، لم تكن فلسطين مجرد قطعة أرض تتنازعها المشاريع الاستعمارية، بل كانت وما تزال رمزًا يتقاطع فيه المقدّس بالتاريخي، ويتنازع فيه الحق بالسطو، وتُخاض على أرضها معارك لا تتوقف بين "ما ينبغي أن يكون" و"ما يُراد له أن يكون".

لكن خلف الصراعات السياسية والعسكرية، تتكشّف طبقة أعمق من الصراع: طبقة المعنى. ففلسطين ليست مجرد نزاع على الأرض، بل على المعنى ذاته: معنى الهوية، ومعنى السيادة، ومعنى العدالة.

الجغرافيا المقدسة: ما وراء الأرض

فلسطين ليست رقعة جغرافية عادية، بل أرض ذات طابع رمزي مركزي في الوعي الإسلامي والمسيحي، بل وحتى في التوراة التي تستند إليها الحركة الصهيونية نفسها.
القدس، والمسجد الأقصى، والخليل، وبيت لحم، ليست فقط مدنًا، بل مراكز روحية ذات حمولة إيمانية هائلة.

ولهذا، فإن السيطرة على فلسطين – خصوصًا القدس – لم تكن يومًا مسألة أمنية أو عقارية، بل محاولة لإعادة تشكيل رموز المعنى في وعي المنطقة. السيطرة على المسجد الأقصى ليست مجرد منع للصلاة، بل محاولة لإزاحة مركز الثقل الروحي العربي والإسلامي من معناه التاريخي، لصالح بنية استعمارية تُفرغ المكان من رسالته.

الهندسة السياسية: كيف تُصنع دولة وظيفية؟

حين نسمع عن "حل الدولتين"، فإن ما يُطرح ليس مجرد دولة فلسطينية مستقلة، بل كيان هجين خاضع لشروط الهندسة الغربية – دولة بلا سيادة، بلا جيش، بلا حدود حقيقية، بلا سيطرة على مصادرها ولا سمائها.

هذه ليست دولة، بل كائن وظيفي يُراد له أن يُطفئ نار المقاومة، ويمنح الاحتلال اعترافًا ضمنيًا، ويعيد تعريف الصراع من "احتلال أرض" إلى "نزاع حدود".
حتى في الجغرافيا، يجري رسم حدود هذه الدولة بما يضمن فصلها عن عمقها الإسلامي والعربي، ويجعلها جزيرة معزولة تحت الرقابة.

عندما تُختطف القدس من موقعها

في كل سردية احتلال، تُستهدف العواصم الروحية أولًا، لأن من يتحكم بالرمز يتحكم بالاتجاه.
القدس لم تكن يومًا مجرد عاصمة سياسية، بل كانت قبلة لشدّ الرحال والحج، ومركزًا روحيًا يُغذي الهوية واليقين والانتماء.

تحويل القدس إلى "مدينة مشتركة" أو "عاصمة مزدوجة" ليس حلاً دبلوماسيًا، بل جريمة رمزية تهدف إلى تفكيك بوصلة الانتماء، وتحويل المكان إلى مساحة بلا هوية، أو بهوية هجينة مطواعة.

القدس في قلب المعركة، لا لأنها مركز سيادي، بل لأنها مركز معنى. ومن لا يفهم هذا البُعد، يفهم الصراع كله كأنه مجرد مفاوضات عقارية.

حرية الملاحة... من رمزية السيادة إلى نفي الوجود

في أي دولة طبيعية، تُعد السيادة على الحدود والسماء والموانئ جزءًا بديهيًا من استقلالها.
أما في ما يُطرح لفلسطين، فإن الممرات الجوية والبحرية تُدار غالبًا من أطراف أجنبية، وتُخضع لحسابات "الأمن الإسرائيلي"، ويُمنع الفلسطيني من التحكم بموارده أو تصديرها بحرًا وجوًا.

إنها دولة تُمنح نظريًا وتُسلب عمليًا، تُرسم على الورق وتُلغى في السماء والبحر والبر.
هي ليست دولة، بل مساحة تجريبية لمفهوم "الدولة من دون دولة": شعب تحت إدارة ذاتية، بلا أدوات حقيقية.

خاتمة: فلسطين كأفق للمعنى والوعي

المعركة على فلسطين لم تكن يومًا صراع حدود، بل صراع على الوعي.
أن تبقى فلسطين حيّة في الوجدان، يعني أن تبقى المنطقة ترفض الهندسة الغربية للشرق، وترفض أن تتحول إلى خرائط وظيفية بلا روح.

ولهذا، فإن أخطر ما يُخاض ضد فلسطين ليس القصف، بل الترويض.
ليس الحصار، بل تطبيع الفكرة.
ليس الاحتلال الظاهر، بل احتلال الوعي الذي يجعل فلسطين عبئًا على أهلها، بدل أن تكون بوصلتهم ومركز ثقلهم.

أحدث أقدم