
الحصار كأداة استعمار لا مرئي
الاحتلال التقليدي، بصورته العسكرية المباشرة، يثير سخطًا عالميًا نسبيًا، ويصعب تبريره أخلاقيًا. لذلك، كان لا بد من بديل أكثر "نظافة" من حيث الصورة، وأكثر "فعالية" من حيث التأثير: الحصار. وهو سلاح يُمارَس عن بُعد، بلا جنود، بلا أعلام، لكنه لا يقل فتكًا. بل هو أكثر خبثًا، لأنه يضرب البنية التحتية، ويدمر الاقتصاد، ويخلق جيلًا منهكًا قبل أن يولد.
في غزة، الحصار ليس إجراءً أمنيًا كما تُصوّره الرواية الصهيونية، بل هو استراتيجية ممنهجة تهدف إلى تدمير المجتمع من الداخل. تقييد الحركة، منع المواد الأساسية، حظر التصدير والاستيراد، تجويع، عزل، قتل معنوي يومي... وكل هذا يُمارس تحت غطاء "السيادة الإسرائيلية".
استهداف المعونات: من ينتظر رغيف الخبز يُقتل
في أحدث صور الإجرام المتعمد، لم يكتف الاحتلال بإغلاق المعابر أو منع دخول الغذاء، بل تجاوز ذلك إلى استهداف من يذهبون للحصول على المعونة. مدنيون، أنهكهم الجوع، ودفعتهم الحاجة إلى الطوابير، يسقطون برصاص القناصة أو تحت قصف مباشر، فقط لأنهم حاولوا النجاة.
إنها جريمة مركبة: تجويع متعمد، ثم قتل للضحايا عند محاولتهم كسر دائرة الجوع. لم يعد الهدف هو "ردع المقاومة"، بل إذلال المجتمع بأسره. أن تُقتل وأنت ترفع يدك طلبًا لعلبة طعام، أو كيس دقيق، هو قمة النذالة الأخلاقية في مشروع الاحتلال، وهو دليل على أن الحرب لم تعد حربًا تقليدية، بل إبادة بأساليب "وظيفية" ممنهجة.
التأثير على الوعي: بين الكرامة والتطبيع مع القهر
الحصار لا يقتل فقط الجسد، بل يستهدف الوعي. حين تُمنع عن العالم، حين تُمنع من العمل، من التعليم، من السفر، من حتى الحلم، فإنك تُدفع للتأقلم مع القيد، وتُجبر على اختزال طموحاتك في النجاة. هكذا يتحول المشروع الصهيوني إلى عملية هندسة نفسية، يراد منها خلق فلسطيني مقطوع الجذور، منهك، يائس، قابل للتطبيع مع القهر.
لكن ما يفشل هذا المخطط – حتى الآن – هو أن غزة لم تنكسر. لم ترفع الراية البيضاء. بل ولّدت تحت الحصار مقاومة، وأدبًا، ووعيًا سياسيًا أكثر حدة. وهذه مفارقة تُربك الهندسة الاستعمارية: أن الأدوات التي صُممت لتفكيك الإنسان الفلسطيني، تصنع منه رمزًا للصمود.
المجتمع الدولي: شريك صامت في الجريمة
الحصار لا يمكن أن يستمر لسنوات دون غطاء دولي. فالعواصم الكبرى تعرف أدق تفاصيل ما يجري في غزة. ومع ذلك، لم تُفرض أي عقوبات على من يغلق المعابر، أو يمنع الوقود، أو يُخرّب شبكات المياه والكهرباء. بل يتم تبرير كل ذلك باسم "أمن إسرائيل". الأمن الذي يُعرّف بأنه قتل حياة شعب كامل، فقط لأنه يرفض أن يُمحى.
نحو تفكيك السردية
ما يجري في غزة ليس مجرد كارثة إنسانية، بل نموذج استعماري حديث، يُصدَّر للعالم كحل "ناجع" لإدارة الشعوب المقاومة: لا تحتلهم، بل احصرهم. لا اقتلهم مرة واحدة، بل استنزفهم كل يوم. ولذا، فإن مقاومة الحصار ليست فقط معركة فلسطينية، بل معركة عالمية ضد هندسة الاستعباد الحديث، التي تُمارَس بأدوات غير مرئية، ولكنها قاتلة.