
الإبادة عبر التجويع... ثم الرصاص
ليست هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها الاحتلال سلاح الحصار والتجويع ضد الفلسطينيين، لكن ما يثير الفزع في هذا المشهد هو التواطؤ المفضوح مع منظومات "الإغاثة" التي تحوّلت ـ سواء بعلمها أو بصمتها ـ إلى جزء من آلة القتل. فالمراكز التي يُفترض أن تكون ملاذًا للجائعين تحوّلت إلى مصائد للدماء، يُستدرج فيها المدنيون الهاربون من الجوع ليُواجهوا رصاص القناصة والدبابات.
وفقًا للتقارير، فقد أسفرت هذه العمليات عن استشهاد نحو 570 فلسطينيًا، وإصابة قرابة 4000 آخرين، تحت ذريعة "ضبط الأمن" خلال توزيع المساعدات. هذه ليست أرقامًا، بل كوارث إنسانية تُسجَّل بدم الضحايا، وتُنقش على جبين المنظمات الدولية بالصمت والتقاعس.
الوجه الحقيقي لـ"الإنسانية الدولية"
ما يدعو إلى الغضب أكثر من الجريمة ذاتها هو الصمت الدولي، والتراخي المتعمّد في اتخاذ إجراءات حاسمة لوقف هذه المجازر. الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الإنسانية الكبرى تكتفي ببيانات "القلق العميق" و"الدعوات لضبط النفس"، بينما تستمر آلة الإبادة في حصد أرواح الجوعى الذين ظنّوا أن الخيمة البيضاء للمساعدات ستحمل لهم خبزًا لا رصاصًا.
العدوّ لا يقتل الفلسطينيين فقط بالسلاح، بل يُمعن في تدمير أبسط صور الحياة والكرامة. يُحوّل الطابور الإنساني إلى مشهد إعدامي جماعي، ويجعل من "الإغاثة" أداة إضافية من أدوات العقاب الجماعي.
نحو محاسبة دولية... أم مزيد من التواطؤ؟
إن ما كشفته صحيفة هآرتس يجب أن يُشكّل منطلقًا حقيقيًا لمحاسبة قادة الاحتلال كمجرمي حرب أمام المحاكم الدولية، لا سيما رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي يتحمّل المسؤولية السياسية المباشرة عن هذه الجرائم. لكن الواقع يقول إن العدالة الدولية، كما هي اليوم، خاضعة لحسابات المصالح لا للقيم، وأن المجرم لا يُحاسب إلا إذا خرج عن الدور المرسوم له في المعادلة الغربية.
لذلك، فإن إعادة توزيع المساعدات عبر قنوات نزيهة كمؤسسة الأونروا والمنظمات الدولية المتخصّصة، ليس فقط ضرورة إنسانية، بل خطوة سياسية لكسر قبضة الاحتلال على شريان الحياة في غزة. فالاحتلال يُدرك أن تجويع الفلسطينيين هو أحد أسلحته الاستراتيجية، تمامًا كما يُدرك أن قتلهم وهم يطلبون المساعدة سيكسر ما تبقّى من روحهم. وعلينا نحن أن نُدرك أن الصمت على هذه الجرائم هو تواطؤ، وأن كشفها وتحليلها وتوثيقها هو جزء من معركة الوعي.