
عندما يُصبح الغذاء فخًا قاتلًا
في الحروب التقليدية، يُفترض أن يبقى الغذاء والمسعفون بعيدين عن مرمى النيران. لكن في غزة، المعادلة مقلوبة: الجوعى يُستهدفون، والخبز يُخضّب بالدم. التقارير المتكررة عن إطلاق النار على المدنيين وهم يتجمّعون للحصول على المعونة ليست حوادث معزولة، بل منهجية متكررة تُمارَس بوعي عسكري وتخطيط مسبق. هذه ليست أخطاء، بل رسائل، مفادها: "الموت في كل الاتجاهات، لا نجاة لك حتى لو لم تقاتل."
الضمير الدولي في غيبوبة انتقائية
صمت العواصم الكبرى أمام هذه المجازر لا يمكن تفسيره إلا في ضوء ازدواجية المعايير. فحين يُقتل المدني الأوكراني، تُعقد القمم وتُفرض العقوبات وتُستنهض لغة القانون الدولي. أما حين يُقتل الفلسطيني على رغيف الخبز، تُسحب الكاميرات، وتُفتح ملفات "التحقيقات"، ثم يُطوى الملف في الأدراج.
الإنسان الفلسطيني – في المنظور الغربي السائد – لا يدخل ضمن تعريف "المدني البريء"، بل هو دومًا مشتبه، قابل للاشتباك، متهم حتى يثبت العكس... والعكس لا يُثبت أبدًا.
الإعلام المُهيمن: إعادة صياغة الجريمة
هنا تتجلى وظيفة الإعلام، لا كناقلٍ للحدث بل كمهندس للوعي. تُعرض المجازر على الشاشات، ولكن عبر عدسة مفلترة: صور بعيدة، عناوين محايدة، تعبيرات مثل "سقوط ضحايا"، "إطلاق نار غير مبرر"، "ارتباك ميداني"، دون نسبٍ واضح للجاني. ومن ثم يُعاد ترتيب المشهد: الضحية تُصبح جزءًا من "الفوضى"، لا من الجريمة، والجاني يصبح "فاعلًا غير معروف" في "حادثٍ مؤسف".
من يملك تعريف الضحية؟
السلطة التي تُحدد من هو الضحية ومن هو المعتدي لا تُمارَس في ميدان الحرب فقط، بل على شاشات الإعلام وفي الخطابات الرسمية. إنها سلطة رمزية، تحدد من يُستحق التضامن، ومن يُترك وحيدًا في مواجهة الرصاص. وهي سلطة تتحكم اليوم في السردية العالمية، وتعيد تشكيل وجدان الجمهور، بحيث يصبح القتل في غزة مألوفًا، لا يستحق الغضب، وربما يُفهم – ضمنيًا – كمبرر.
التجويع كأداة هندسة نفسية
لكن الأشد خطورة أن يكون الهدف من التجويع ليس فقط كسر الأجساد، بل كسر الإرادة. أن يتحول الخبز إلى وسيلة تطويع، والماء إلى مقابل للطاعة. إنها محاولة لإعادة تشكيل المجتمع من الداخل: أن يتعوّد على المهانة، أن ينكفئ إلى الاحتياج، أن ينسى كرامته تحت وطأة البقاء. وهذا هو المعنى الأعمق لـ"الهندسة النفسية" التي تسعى لترويض الشعوب عبر أدوات الحياة اليومية.
خاتمة: هل نكسر الصمت أم نُطبع مع الجريمة؟
السؤال الذي يبقى: إلى متى يبقى العالم متواطئًا بالصمت؟ وهل يكفي الغضب الأخلاقي ما لم يتحول إلى فعل؟ إن استهداف المدنيين في لحظة الجوع لا يفضح فقط بشاعة الجريمة، بل يفضح هشاشة المعايير الدولية، وسقوط الإنسانية حين تُقاس بالجغرافيا. ومن هنا يبدأ الوعي الحقيقي: حين ندرك أن الخبز المسموم ليس فقط من يُغتال في طابور الغوث، بل أيضًا من يُقدَّم لنا مغمّسًا بسرديات الإعلام الكاذبة.