
فهل يمكن أن يستمر مشروع التطبيع كما كان؟ أم أن حرب غزة قد فجّرت فيه ما لا يُرمَّم؟
هذا المقال يتناول الفجوة بين مواقف الأنظمة وصوت الشعوب، ويحلل مصير التطبيع بعد أن تراكمت الجثث على هامش ما سُمّي "سلامًا".
أولًا: التطبيع قبل المجزرة — من "أبراهام" إلى "القبول الصامت"
قبل المجازر، كان المشروع الإسرائيلي يسير بخطوات متسارعة:
- الإمارات، البحرين، المغرب، السودان… في ركب التطبيع الرسمي.
- السعودية تتدرّج بهدوء نحو الاعتراف، بتنسيق أمريكي مباشر.
- الضفة صامتة، غزة محاصَرة، العالم العربي منهك.
كل ذلك صنع وهمًا أن القضية الفلسطينية يمكن تجاوزها بـ"تسويات اقتصادية"، وأن المقاومة لا مكان لها في "شرق أوسط جديد".
ثانيًا: مجازر غزة تغيّر المعادلة
ثم جاءت الحرب، وتغيّر كل شيء:
- ملايين خرجوا في الشوارع من الرباط إلى جاكرتا.
- رموز التطبيع سقطت شعبيتها في بلدانها.
- إعلام المقاومة أصبح الصوت الأول لدى الشعوب، لا إعلام "السلام الدافئ".
بات واضحًا: الشعوب لا تنسى فلسطين، حتى لو صمت الإعلام الرسمي.
ثالثًا: ردود الأنظمة... بين التجميد والخداع
مواقف الأنظمة العربية تفاوتت بعد المجازر:
- الإمارات التزمت الصمت، وواصلت علاقاتها بشكل طبيعي، بل شاركت في مؤتمرات أمنية مع إسرائيل خلال القصف.
- البحرين والمغرب أصدرتا مواقف رمادية، تجمع بين "القلق" و"الحرص على التهدئة"، دون تعليق للتطبيع.
- السعودية جمدت المسار مؤقتًا، لكنها لم تعلنه ميتًا، بل ربطته بـ"الملف الفلسطيني"، ما يترك الباب مفتوحًا لمساومات لاحقة.
الردود لم تكن أخلاقية، بل وظيفية: محاولة امتصاص غضب الشعوب دون كسر العلاقة مع تل أبيب.
رابعًا: الشعوب تجرّدت من الوهم
المكسب الأهم بعد هذه الحرب، أن الشعوب باتت ترى التطبيع كما هو:
- ليس "سلامًا"، بل شراكة مع القاتل.
- ليس "انفتاحًا"، بل خيانة لما بقي من كرامة عربية.
- ليس "استراتيجية استقرار"، بل دمغة عار في سجل من وقّع وبارك وموّل.
لم تعد اللغة التبريرية ("نطبع لنؤثر على إسرائيل من الداخل") تنطلي على أحد، بعد أن قُصفت المستشفيات والمخيمات على مرأى الجميع.
خامسًا: هل انتهى مشروع التطبيع؟
الجواب معقد:
- سياسيًا: لا، لم ينتهِ. الأنظمة لا تزال ترى في إسرائيل بوابة الأمن والدعم الغربي.
- شعبيًا: نعم، أصيب المشروع في عمقه، وربما صار بلا شرعية اجتماعية حقيقية.
- استراتيجيًا: المشروع أصيب بندبة لا تندمل بسهولة. أي اتفاق تطبيع مستقبلي سيُنظر إليه على أنه "دمغة خيانة" أكثر من كونه "خطوة دبلوماسية".
إسرائيل نفسها تدرك ذلك: ولهذا فهي تحاول إغلاق الحرب بأي شكل… لتعود إلى "مائدة الصفقة" بأسرع وقت ممكن.
خاتمة: تحت الركام… سقط القناع
ربما لم تُنهِ المجازر مسار التطبيع رسميًا، لكنها كشفت للجميع أن هذا المسار لا يمرّ عبر الشعوب.
الشعوب لم توقّع… ولم توافق… ولن تسامح.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم ليس: "هل يُستأنف التطبيع؟"
بل: هل هناك نظام عربي يجرؤ بعد الآن أن يبتسم في وجه القاتل علنًا؟