
تأمل في بنية التفكير الجماعي:
في زمن يتدفّق فيه المحتوى بلا توقف، من الشاشات إلى المنصات، يبدو أن المعرفة أصبحت متاحة أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك، لا تزال الشعوب متفاوتة في وعيها، في قدرتها على التمييز، وفي عمق نظرتها إلى ما يُقدَّم لها. فما الذي يصنع الفرق بين مجتمع حيّ التفكير، يُنتج أسئلته ويشكّك في المسلّمات، وبين مجتمع يعيش في ظلال التلقين، مستهلكًا لما يُلقى إليه؟ إنه الفرق الجوهري بين ثقافة السؤال وثقافة التلقّي.
السؤال بوصفه فعلًا حضاريًا
ثقافة السؤال لا تعني الشك لأجل الشك، بل تعني الحيوية الفكرية، وامتلاك الجرأة على مراجعة المألوف.
إنها تنبع من وعي بأن كل معرفة مؤقتة، وكل يقين قابل للمساءلة، وأن الوعي لا يُورث، بل يُكتسب بتجربة نقدية.
فالسؤال ليس مجرد أداة للمعرفة، بل جوهر تكوينها.
المجتمع الذي يعلّم أبناءه أن يسألوا، يعلّمهم أن يكونوا أحرارًا.
التلقّي: حين تصبح العقول أوعية
في المقابل، ثقافة التلقّي تنشأ حين يُربّى الفرد على أن المعرفة تأتي من "السلطة"، سواء كانت دينية، تعليمية، إعلامية أو سياسية.
الطالب يُمنع من السؤال، القارئ يتلقى دون تحليل، والمواطن لا يُتوقَّع منه إلا أن يصفّق أو يعارض ضمن الإطار المحدد.
هذه الثقافة تُنتج جمهورًا لا يبحث، بل ينتظر. لا يقرأ ليبني رأيًا، بل ليتبنّى رأيًا جاهزًا.
وهكذا يتحوّل الإنسان من "فاعل في العالم" إلى "مفعول به" في منظومة التفكير الجمعي.
الإعلام والتعليم: بين التحفيز والتلقين
- في ثقافة السؤال: الإعلام يُحرّض على التفكير، يعرض زوايا متعددة، ويفتح المجال للتحليل والنقد. التعليم يُحفّز على البحث والتجريب.
- في ثقافة التلقّي: الإعلام يُسطّح، يُروّج، يُعيد إنتاج الخطاب المهيمن. التعليم يُكرّر، يلقّن، يُغلق باب الجدل.
المفارقة أن التقدم التكنولوجي قد يُستخدم في الحالتين: إما لتمكين التفكير، أو لتعزيز التبعية.
من يصنع الوعي؟ ومن يستهلكه؟
الفرق بين مجتمع واعٍ وآخر غافل لا يكمن فقط في المعلومة، بل في قدرة الفرد على مساءلتها.
- المجتمع المنتج للوعي:
- يُكرّم المثقف النقدي.
- يُتيح مساحات للشكّ المنهجي.
- يُشجّع القراءة الحرة والحوار المفتوح.
- المجتمع المستهلك للوعي:
- يُخوّن من يسأل.
- يُقدّس التقليد.
- يُدمن على "الوصفات الجاهزة" فكريًا وسياسيًا ودينيًا.
الأسئلة كفعل مقاومة
أن تسأل يعني أنك لا تقبل الأشياء كما هي.
السؤال هو بداية الخروج من السجن الثقافي، من القوالب الجاهزة، من اللغة التي تُحاصر المعنى.
في الأنظمة الشمولية، لا يُمنع القتل فقط، بل يُمنع السؤال. لأن السؤال يخلخل، ويكشف، ويحرّك.
وحده المجتمع الذي يحترم الأسئلة الصعبة، يملك فرصة للنجاة من الاستبداد، سواء في السياسة أو الفكر أو السوق.
خلاصة تحليلية: من يُعيد إنتاج من؟
إذا كانت الإجابات تُشترى، فإن الأسئلة تُصنع.
وإذا كانت ثقافة التلقّي تنتج أتباعًا، فإن ثقافة السؤال تصنع أحرارًا.
بين مجتمع يُعيد إنتاج ما يُقال له، وآخر يُنتج وعيه، يكمن الفرق بين البقاء والانقراض الثقافي.
فالذي لا يسأل، لن يعرف يومًا إن كان ما يعرفه صحيحًا.