فنزويلا: كيف تُفقّر دولة نفطية؟ وهل أمريكا بريئة؟

قراءة في خلفيات الانهيار الفنزويلي:

في مشهد عبثي بات مألوفًا، يصطف المواطنون الفنزويليون في طوابير طويلة لشراء سلع أساسية، فيما بلدهم يحتضن أكبر احتياطي نفطي مكتشف في العالم. تتهاوى العملة المحلية إلى ما دون الورق، وتغيب أبسط مقومات الدولة، ويغادر الملايين الحدود بحثًا عن فتات الكرامة. كيف تحوّلت فنزويلا من رمز لثروات أميركا اللاتينية إلى عنوان للفقر والتضخم والانهيار؟ وهل كانت أمريكا مجرد مراقب؟ أم شريكًا فاعلًا في صناعة الكارثة؟

النفط... من نعمة إلى لعنة

كانت فنزويلا لعقود تعتمد على صادرات النفط كمصدر شبه وحيد للدخل القومي، حيث شكل النفط أكثر من 90% من الإيرادات. في أزمنة الطفرة، وبخاصة خلال حكم هوغو تشافيز، تدفقت مليارات الدولارات على الخزينة، لكنها لم تُستثمر في بنية إنتاجية حقيقية، بل صُرفت في سياسات شعبوية ومعونات خارجية وخطابات أيديولوجية.

هذا الاعتماد الريعي الكامل جعل الاقتصاد هشًا، عُرضة لأي تذبذب في أسعار النفط، وعاجزًا عن توليد قيمة من خارج أنابيب الخام.

سوء الإدارة والفساد: انهيار من الداخل

الخلل لم يكن اقتصاديًا فحسب، بل سياسيًا وإداريًا بامتياز. فمع صعود "الاشتراكية البوليفارية"، ورثت النخبة الحاكمة ثروة النفط لكنها أهدرتها:

  • تفشى الفساد في كل مستويات الدولة، بما في ذلك شركة النفط الوطنية PDVSA.
  • أُقصي القطاع الخاص وأُخضع بالقوة، مما أدى إلى هروب رؤوس الأموال وانهيار الإنتاج المحلي.
  • اعتمدت الحكومة على طباعة النقود لتغطية العجز، فاندلعت أسوأ موجة تضخم في التاريخ الحديث، حيث فقد البوليفار أكثر من 99% من قيمته.

تلاشت الطبقة الوسطى، وانهار النظام المصرفي، وانهارت معه الدولة من الداخل.

ثم جاءت أمريكا... بالسلاح الاقتصادي

في خضم الأزمة، دخلت الولايات المتحدة على الخط، لا كمُصلِح، بل كطرف فاعل في تعميق الجرح. استخدمت واشنطن أدواتها الاقتصادية والاستخباراتية والدبلوماسية لتسريع سقوط النظام:

  1. عقوبات خانقة على صادرات النفط وشركة PDVSA، مما خنق شريان الحياة الاقتصادي.
  2. تجميد مليارات الدولارات من أصول الدولة في الخارج، وعلى رأسها شركة CITGO.
  3. منع التعاملات المالية الدولية، وفرض حصار شبه تام على النظام المصرفي الفنزويلي.
  4. الاعتراف برئيس معارض موازٍ (خوان غوايدو)، في محاولة لخلق شرعية مزدوجة تُربك الداخل وتُعزل الحكومة خارجيًا.
  5. تشجيع الدولرة غير الرسمية، ما أدى إلى خلق اقتصاد طبقي؛ من يملك دولارات ينجو، ومن لا يملك يتلاشى.

كان الهدف المعلن هو "إسقاط ديكتاتورية مادورو"، لكن الأداة الفعلية كانت تجويع الشعب وحرمانه من الأساسيات.

أمريكا ليست وحدها، لكنها ليست بريئة

الإنصاف يقتضي القول إن أمريكا لم تُفقّر فنزويلا من الصفر؛ فقد سبقتها عقود من الفساد والفشل الاقتصادي. لكنها كانت القوة التي حوّلت الأزمة إلى كارثة، واستخدمت العقوبات كأداة هندسة سياسية، تستبدل خصومها بحلفاء، لا لإنقاذ الشعب، بل لضمان ولاء نفطي جديد.

فنزويلا ليست فقط بلدًا غنيًا بالنفط، بل ممرًا استراتيجيًا في أميركا اللاتينية، وقديمًا كانت واشنطن تسمي القارة بـ"الفناء الخلفي" لمصالحها. إنها إذًا، ليست معنية بإسقاط الاستبداد، بل بإعادة صياغته بما يخدمها.

الدولرة: حين تُجبر الدولة على التخلي عن عملتها

مع تسارع الانهيار، لم تعد العملة الوطنية البوليفار صالحة حتى لشراء الخبز. فأجبر المواطنون على التعامل بالدولار الأمريكي في السوق السوداء، ومع الوقت أصبحت الدولرة أمرًا واقعًا رغم أن الدولة لم تعتمدها رسميًا.

لكن هذه "الدولرة القسرية" عمّقت الفجوة الطبقية:

  • الموظف الحكومي يتقاضى أجره بالبوليفار المنهار.
  • بينما من يعمل في السوق الحرة أو مع الخارج يحصل على الدولار ويعيش في عالم مختلف.

تحوّل المواطن الفنزويلي إلى لاجئ اقتصادي داخل بلده.

فروق جوهرية: الفقر ليس قَدَرًا... بل أداة

الفرق هنا ليس فقط بين الغنى والفقر، بل بين:

  • الثروة كحق سيادي وبين الثروة كمطمع خارجي.
  • الفشل الناتج عن الداخل، والانهيار المدفوع من الخارج.
  • الأزمات الاقتصادية والحروب الاقتصادية.

وما يُراد لفنزويلا ليس فقط إسقاط نظام، بل إعادة هيكلة مجتمع كامل بالقوة الناعمة والخنق البطيء.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.