سقوط المعنى: لماذا نعاني من الفراغ رغم كثافة الحياة؟

في زمن غارق بالتطبيقات، المواعيد، التنبيهات، والتنقلات السريعة بين الشاشات، قد يبدو من العبث طرح سؤال: "لماذا نشعر بالفراغ؟"

كل شيء حولنا يعمل، الحياة لا تتوقف، المهام تتوالى، والضوضاء لا تهدأ. ومع ذلك، في عمق هذا الامتلاء الظاهري، تتسلل حالة خفية من العدم، شعور صامت بأن شيئًا ما ينقص... لا نعرف اسمه، لكنه أساسي: المعنى.

الزمن المشغول... والروح الخاوية

لم تكن الحياة في السابق سهلة، لكنها كانت مفهومة. كان للعمل معنى، وللعلاقات الاجتماعية عمق، وللبطء قيمة. أما اليوم، فكل شيء يتسارع حتى يكاد يُفرغ من جوهره.

نعيش أيامنا بين مواعيد وملفات ومحادثات، لكن القليل منها يلامس جوهرنا الإنساني.
نراكم النشاطات، دون أن نمنح أنفسنا لحظة لسؤال بسيط: لماذا أفعل كل هذا؟
الفراغ لا ينشأ من قلة الحركة، بل من كثرة الأشياء التي لا معنى لها.

المعنى بين الإنتاج والاستهلاك

في المنظومة الحديثة، بات الإنسان يُقاس بما يُنتج، أو بما يستهلك.
النجاح بات مرادفًا للإنجاز الكمي: كم ربحت؟ كم عدد متابعيك؟ كم سافرت؟ كم أنجزت؟
لكن هذه المقاييس تفتقر للعمق، لأنها لا تُجيب عن سؤال الإنسان الحقيقي:
هل ما أفعله يُشبهني؟ هل يضيف لي شيئًا؟ هل يربطني بالعالم حولي؟

حين ينفصل الفعل عن القيم، يتحوّل إلى عبء. وحين يصبح الاستهلاك غاية، يضيع المعنى، مهما بلغ التنوّع أو الرفاه.

الرمزية المفقودة في الحياة اليومية

حتى أبسط العادات اليومية فقدت رمزيتها:

  • الوجبة ليست لحظة دفء جماعي، بل وجبة سريعة أمام الشاشة.
  • اللقاء ليس محادثة، بل صورة تُنشر.
  • الحزن ليس مشاعر، بل "بوست" يُكتب.
  • حتى الموت، أصبح إعلانًا رقميًا يمرّ كخبر عابر.

كل ما كان يحمل طابعًا شعائريًا، وجدانيًا، صار يُفرغ من رمزيته ليُستبدل بوظيفة سريعة… ثم يُنسى.

الوفرة كقناع للضياع

المفارقة الكبرى أننا نعيش في عصر وفرة غير مسبوقة: معلومات، أدوات، خيارات، إمكانات.
لكن هذه الوفرة لم تُنتج بالضرورة فهمًا أعمق للحياة، بل غرقًا في التفاصيل وتيهًا في الخيارات.
في كل لحظة تُعرض علينا "احتمالات" جديدة: تعلم، سفر، شراء، تطوير ذات… ومع ذلك، يبقى السؤال معلقًا: كل هذه الاحتمالات… إلى أين؟

حين يُغيب المعنى، يتمدد القلق

القلق الوجودي اليوم لا ينبع فقط من الخوف من المستقبل، بل من غياب البوصلة.
فالعقل يمكنه تحمّل التعب، لكن لا يتحمّل العشوائية.
والقلب يمكنه الصبر، لكنه لا يصمد طويلًا دون ارتباط بشيء يتجاوز اللحظة.

القلق هنا ليس مرضًا فرديًا، بل أعراض حضارية لانهيار المعنى: حين تتحوّل الحياة إلى سلسلة من المهام المجردة، دون اتصال بقيم كبرى، أو ارتباط إنساني صادق.

كيف نستعيد المعنى؟

ليس الحل في الانسحاب من العالم، بل في إعادة ترتيب العلاقة معه.
قد يكون الحل في:

  • التوقف عن الركض خلف "الإنجاز للإنجاز".
  • العودة إلى البساطة بوصفها شكلًا من أشكال العمق.
  • تكوين علاقات إنسانية غير مشروطة.
  • استعادة لحظات الصمت، التأمل، والقراءة غير النفعية.

المعنى لا يُشترى، ولا يُنشر، ولا يُقاس.
المعنى يُصاغ داخليًا، حين تتوقف عن العيش كما يُراد لك، وتبدأ في العيش كما تؤمن أنت.

أحدث أقدم

ويجد بعد عنوان المقالة

📌