
لكن في زمن السرعة، لم نعد نعيش الزمن… بل نُطارده. لا نكاد نبدأ يومًا حتى نجده يتسرب من بين أيدينا بلا أثر.
السؤال القاسي اليوم لم يعد: كيف نقضي وقتنا؟ بل: هل بقي لنا وقت أصلًا؟
الزمن المملوك… لمَن؟
حين تتحوّل الحياة إلى قائمة مهام لا تنتهي، تُصبح كل لحظة محاصرة بالتنبيهات، والمواعيد، والطلبات، والردود.
لم يعد الزمن ملكنا، بل أصبح ملكًا لجهات متعددة:
- صاحب العمل
- الهاتف الذكي
- الرسائل المستعجلة
- المنصات التي تستهلك انتباهنا دون مقابل
نحن نمنح وقتنا لكل شيء… إلا لأنفسنا.
الانشغال المستمر: آلية دفاع أم عبودية ناعمة؟
في كثير من الأحيان، لا نهرب من العمل فقط، بل نختبئ فيه.
نملأ يومنا بما يمكن فعله، كي لا نفكّر فيما يجب مواجهته.
وهكذا، يتحوّل الانشغال من ضرورة إلى إدمان، ومن تنظيم إلى هروب، ومن استثمار إلى عبودية زمنية تُفرغ اللحظة من معناها.
العمل لم يعد وسيلة للعيش، بل أصبح هو الحياة ذاتها، وبقي الإنسان يعمل ليبقى مشغولًا، لا ليكون منتجًا.
السرقة الناعمة: كيف يُنتزع الوقت دون أن نشعر؟
الوقت لا يُسرق بالعنف، بل بالإقناع. يُنتزع منك باسم الإنتاجية، باسم النجاح، باسم "البقاء على اطلاع"، باسم التواصل.
- تطبيق يخطف منك ساعة دون وعي.
- مكالمة فارغة تقتحم لحظة تركيز.
- إشعار يقطع سياقًا داخليًا ثم لا يعود.
كل لحظة مقطوعة لا تُعوَّض، لأنها ليست لحظة فقط، بل خيطًا من خيوط الذات.
حين نُحاسب على وقت لم نختره
المدهش أن الإنسان يُحاسب اليوم على "سوء إدارته للوقت"، بينما لم يُمنح حقّ امتلاكه أصلًا.
فكيف يُلام من لم يُختر له إيقاع يومه؟
كيف يُطلب منه التوازن، وهو يُساق بين مهام أُنتجت لتُستهلك لا لتنفع؟
وهكذا يتحوّل الإنسان إلى آلة تُنتج الوقت للآخرين، بينما يفقد الزمن الخاص الذي يُبنى فيه الوعي والذات والطمأنينة.
كيف نستعيد لحظاتنا؟
استعادة الزمن ليست تمرينًا إداريًا، بل فعل مقاومة وجودية.
أن تمتلك وقتك هو أن تقول:
- لن أُسرق عبر الضجيج الرقمي.
- لن أعيش وفق إيقاع مفروض عليّ.
- لن أستهلك لحظتي بل سأدخلها بالكامل.
ربما نحتاج إلى "بطء شجاع"، يرفض فكرة أن القيمة تُقاس بما ننجزه في الساعة، لا بما نعيشه في الدقيقة.
خاتمة: القيمة ليست في كثرة الوقت، بل في حريته
الوقت لا يُقاس بالدقائق، بل بالمقدار الذي نشعر فيه أننا نعيش بوعي.
وفي زمن يُباع فيه الانتباه، وتُشتّت فيه اللحظة، فإن الاحتفاظ بلحظة هادئة مع الذات أصبح شكلًا من أشكال التحرر.
أن تملك وقتك اليوم، لا يعني أن تتوقف عن العمل، بل أن تستعيد نفسك في زحمة العمل.
أن تختار، ولو لبضع دقائق، أن تُنصت لصمتك، أن ترفض الإيقاع المفروض، أن تحيا كما تشاء، لا كما يُراد لك.