من يوقف المأساة؟ قراءة في إطالة النزيف الإنساني في غزة

منذ شهور، لا تكف غزة عن النزيف.

صور الجثث الممزقة، وصرخات الأطفال تحت الركام، والمستشفيات المدمّرة لم تعد تثير سوى عبارات "القلق العميق" من عواصم العالم.
لكن السؤال الحقيقي الذي يُطرح من خلف الحناجر المخنوقة بالخذلان هو:
من يوقف هذه المأساة؟
ومن يملك الجرأة ليقول لإسرائيل: كفى؟

هذا المقال لا يبحث عن العاطفة، بل عن الجواب السياسي والأخلاقي على جريمة تتم ببطء، وعلى مرأى الجميع.

أولًا: من يطيل عمر المأساة؟

ليست المأساة في القصف وحده، بل في البيئة الدولية التي تسمح له بالاستمرار.
الفاعل المباشر هو إسرائيل، لكنّ الفاعلين غير المباشرين كثيرون:

  • أمريكا، التي تسلّح وتغطي وتبرر، لا فقط تدعم.
  • الاتحاد الأوروبي، الذي يتذرع بثنائية "إدانة العنف من الطرفين"، بينما يقف عمليًا في صفّ الجلاد.
  • الأنظمة العربية، التي تتوسل وقف إطلاق النار دون أن تلوّح بأي ورقة ضغط حقيقية.
  • الإعلام الغربي، الذي لا يزال يحوّر سردية الأحداث ليجعل المجازر "ردّ فعل" مبررًا.

كل هؤلاء أطالوا أمد الجريمة، لا بالصمت فحسب، بل بالمشاركة المقنّعة.

ثانيًا: لماذا هذا التمادي في الإذلال الإنساني؟

لأنّ المشروع الصهيوني لم يقم فقط على الاحتلال، بل على نزع إنسانية الفلسطيني.

فكلما نجحت إسرائيل في إقناع العالم أن الفلسطيني:

  • "إرهابي" وليس مقاومًا
  • "رقم" وليس إنسانًا
  • "عقبة للسلام" وليس ضحية استعمار

كلما أصبح قتله أرخص، وتهجيره مبررًا، وإبادة أحيائه تفصيلًا أمنيًا.

وهنا يظهر دور الإعلام العالمي، ومنظمات حقوق الإنسان الصامتة، التي تتواطأ حين تُغضّ الطرف، أو حين تساوي بين القاتل والضحية.

ثالثًا: من يستطيع منع إسرائيل؟

1. الولايات المتحدة

هي الوحيدة التي تملك سلطة الردع الفوري، لكنها تستخدمها بالعكس.
فكل فيتو أمريكي في مجلس الأمن هو تصريح بالقتل.
وكل شحنة ذخيرة جديدة هي تمديد للنكبة.

2. الأنظمة العربية

تملك أوراقًا حقيقية:
النفط، العلاقات، القواعد، أوراق التطبيع…
لكنّها أسيرة معادلة بقائها في السلطة، وتوازناتها الهشة، فتحوّلت إلى شريك في العجز، إن لم نقل شريكًا في الجريمة بالصمت.

3. الشعوب

هي الجهة الوحيدة التي تملك الإرادة الأخلاقية غير القابلة للمساومة، لكنّها منزوعة السلاح، ومخترقة بالإحباط، ومقموعة في الداخل، ومشتّتة خارجه.

4. الرأي العام العالمي

رغم بطء حركته، بدأ يشكّل عنصر ضغط متناميًا عبر التظاهرات، والمقاطعة، والتعبئة الرقمية.
لكنه يواجه ماكينة إعلامية ولوبيات صهيونية قوية تقلب الحقائق وتشوّه الحراك.

رابعًا: لماذا لا تتوقف المجازر إذًا؟

لأن كلفة استمرارها، حتى الآن، أقل من كلفة إيقافها.
ولأن الكيان الصهيوني يرى في غزة ساحة اختبار لمعادلات أكبر:

  • كسر نموذج المقاومة
  • فرض الاستسلام كخيار وحيد
  • تحويل الكارثة إلى واقع دائم يُنسى مع الوقت

وغزة، رغم الألم، ترفض أن تكون الضحية الصامتة.
ولذلك تُعاقب لا فقط بالسلاح، بل بالحصار السياسي والشيطنة الإعلامية و"التحييد الحقوقي".

خامسًا: هل من أمل؟

نعم، لكن بشرط: أن تُكسر معادلة الخوف.
ليس فقط في غزة، بل في العالم العربي، وفي الضمير الغربي، وفي النخب المتواطئة.

إن عجز المنظومة الدولية عن إيقاف المذبحة لا يعني نهاية التاريخ، بل نهاية شرعيتهم الأخلاقية.
وغزة، بصمودها، أعادت تعريف من هو الضحية، ومن هو الجلاد.
وهذا وحده بداية التغيير.

الخاتمة

لن يوقف المجازر مناشدات فارغة، ولا بيانات شجب مكررة.
بل توازن قوة جديد، تفرضه المقاومة على الأرض، وتدعمه الشعوب بالضغط، وتحرجه النخب بالصوت، وتكرّسه الذاكرة الجماعية كفضيحة عالمية لا تُمحى.

أما من ينتظر من "العالم المتحضر" أن يتحرك... فقد تأخر كثيرًا.
وغزة تعلم الآن: لا أحد سيحميك إلا نفسك.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.