الضمير الإنساني في محكمة غزة: صمتٌ أم يقظة متأخرة؟

في كل مشهد من مشاهد الإبادة الجارية في غزة، يُطرح السؤال الكبير:

أين الضمير الإنساني؟
أين تلك القيم العالمية التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية، والتي أقسم العالم بأسره ألا يسمح بتكرار الفظائع باسم "الإنسانية"؟
لكن ما جرى في غزة – من قتل جماعي للأطفال، وتجويع للمدنيين، وتدمير ممنهج للمشافي والمنازل – لم يحرّك ذلك الضمير العالمي إلا على استحياء، وبعد فوات الأوان، إن تحرك أصلًا.

فهل مات الضمير الإنساني؟ أم أُخضع للتجميد الانتقائي؟ وما الذي يكشفه هذا الصمت عن حقيقة النظام الأخلاقي الدولي في زمن الهيمنة؟

أولًا: مواقف متباينة… تكشف الزيف لا التنوّع

شهدنا تباينًا في ردود الفعل العالمية:

  • دول كبرى صمتت أو دعمت، مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وشاركت في تسليح المعتدي وتبرير المجازر.
  • منظمات دولية ترددت وتلجلجت، مثل الأمم المتحدة، التي أصدرت بيانات خجولة وعاجزة عن فرض الحد الأدنى من الحماية.
  • شعوب غربية خرجت بالملايين، في مظاهرات غير مسبوقة لدعم فلسطين ورفض الإبادة.
  • نخب إعلامية سكتت أو بررت، وأخرى قاومت الطمس وكشفت فظائع الاحتلال رغم القمع.

وهذا التباين يكشف أن المشكلة ليست في "موت الضمير الإنساني" مطلقًا، بل في من يحتكره، ومن يوجهه، ومن يعطله عمدًا حين تتعارض الأخلاق مع المصالح.

ثانيًا: ازدواجية المعايير… الجريمة الأعظم من المجزرة

لا شيء أضرّ بفكرة "الضمير الإنساني" كما فعلت ازدواجية المعايير:

  • حين يُجرّم العالم إطلاق صاروخ على مستوطنة، لكنه يبرّر قصف آلاف الأطفال في المدارس.
  • حين تُحرّك محاكم الجنايات الدولية ضد دول الجنوب، لكنها تعجز عن توجيه تهمة واحدة لقادة إسرائيل.
  • حين تُمنع المساعدات الغذائية عن غزة، ويُسمح في الوقت ذاته بتدفّق الأسلحة نحو القاتل.

هذه الازدواجية ليست خللًا عرضيًا، بل سياسة دولية مقصودة، تُفرغ "الإنسانية" من معناها، وتحولها إلى أداة انتقائية للهيمنة.

ثالثًا: هل تغيّر شيء في الضمير العالمي بعد غزة؟

نعم، فغزة لم تكن فقط ساحة حرب، بل مرآة أخلاقية كشفت ما يلي:

  • أن الشعوب أصدق من حكوماتها.
  • أن الصورة أقوى من الرصاصة عندما تنقل الحقيقة بلا تزييف.
  • أن آلاف المثقفين والأكاديميين والصحفيين في الغرب بدؤوا بمراجعة مسلماتهم، وبعضهم دفع الثمن.
  • أن جيلاً جديدًا من المناصرين لفلسطين تشكّل، لا بالانتماء العرقي أو الديني، بل بالإحساس الفجّ بالظلم.

وإن كانت الأنظمة تملك الدبابة، فإن الضمير الحي بدأ يمتلك الكلمة، وهذا التغيّر ليس سريعًا لكنه عميق واستراتيجي.

رابعًا: لماذا لم يتحرّك العالم كما يجب؟

1. الخوف من الاتهام بمعاداة السامية

أي انتقاد لإسرائيل يُربط تلقائيًا بهذه التهمة، مما يُرهب الصحفيين، والمفكرين، والجامعات، ويمنع النقاش الحر.

2. قوة اللوبيات الصهيونية

تؤثر في مراكز القرار، وتتحكم في الإعلام، وتمارس الرقابة والضغط الاقتصادي، وهو ما جعل الضمير العام رهينة مصالح نخبوية.

3. اللامبالاة المتراكمة

عقود من التطبيع مع القهر، وتفريغ المصطلحات من معانيها ("السلام"، "التعايش"، "الأمن") خلقت طبقة من اللامبالاة الأخلاقية.

4. الإرهاب الناعم

بعض الأصوات في الغرب صُرفت من عملها، أُدرجت في قوائم سوداء، أُسكِتت تحت شعار "الحياد"، بينما كان المطلوب منها أن تبلع الدم.

خامسًا: هل يمكن استعادة الضمير العالمي؟

نعم، ولكن بشروط:

  • بفضح نفاق الخطاب الإنساني الرسمي، وكشف الازدواجية لا السكوت عنها.
  • بدعم الأصوات الحرة التي بدأت تنهض في الغرب، وعدم تركها وحدها في مواجهة سيف الرقابة.
  • بخلق تحالف عالمي جديد للقيم الحقيقية، يتجاوز المؤسسات الرسمية المهترئة، ويبني وعيًا جماهيريًا لا يُخدع بسهولة.

الخاتمة

ما حدث في غزة لم يقتل فقط البشر، بل جرَح الضمير العالمي الجَمعي، وفضح كم أن الإنسان قد يُسحق دون أن تُسحق معه الشعارات الفارغة.

لكنّ غزة، رغم أنها كانت في موقع الضحية، هي التي حاكمت العالم بالصورة والدم والموقف، وكشفت من هو الإنسان… ومن هو المتواطئ.

الضمير الإنساني لم يمت، لكنه مهدَّد بالاختطاف.
والمعركة الحقيقية بعد وقف النار، هي معركة إنقاذ الإنسانية من نفاق مدّعيها.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.