
تموت تحت الركام، وتحت صمت العالم، وتحت أعين المتفرجين الذين تمر المجازر أمامهم كأخبار طقس في شريط إخباري بارد.
كل شيء في هذه الحرب وحشي، لكنّ الوحشية الأشد هي أن تموت غزة وحدها… بينما العالم يواصل حياته وكأن شيئًا لم يكن.
فإلى متى؟
إلى متى يُترك الدم الفلسطيني مستباحًا بلا حماية؟
إلى متى تظل غزة تنزف وحدها، وتصمد وحدها، وتُشيّع أبناءها وحدها؟
أولًا: لماذا تموت غزة وحدها؟
لأنها تحارب أكثر من عدو:
- تحارب آلة عسكرية متوحشة تستهدف البشر والحجر.
- وتحارب نظامًا دوليًا أعطى القاتل حصانة مسبقة.
- وتحارب عالمًا عربيًا يكتفي بالتنديد، ولا يجرؤ على التهديد.
- وتحارب رأيًا عامًا مُنهكًا، معتادًا على مشهد الدم، لا يُفزعه شيء بعد الآن.
غزة تموت وحيدة لأن المنظومة العالمية اعتادت على موتها، ولأن استغاثتها لم تعد تكسر الزجاج، بل تمر عبره كصدى بلا صدى.
ثانيًا: ما معنى أن تموت مدينة وحدها؟
معناه أن يُغتال الضمير، لا الجسد فقط.
أن تُحوَّل المأساة إلى "روتين"، والمجزرة إلى "تقرير"، والمقاومة إلى "إرهاب".
حين تموت غزة وحدها، لا يكون الخذلان عرضيًا، بل نظامًا مستقرًا.
يُدار المشهد بدقة:
- بيانات أممية محفوظة.
- تغطيات إعلامية انتقائية.
- صفقات سلاح تُستأنف بلا خجل.
- وأرواح تُسجَّل في قوائم الموت وكأنها أرقام ضريبة.
غزة لا تحتاج فقط إلى وقف إطلاق النار، بل إلى من يعترف بأنها تُذبح ظلمًا… لا خطأ.
ثالثًا: ما الذي يكشفه هذا الصمت عن العالم؟
الصمت على إبادة غزة هو شهادة على موت النظام الأخلاقي الدولي.
فالقانون الدولي وُضع لمنع الفظائع… لكنه يعجز أمام إسرائيل.
ومواثيق حقوق الإنسان كُتبت بعد المحارق… لكنها تُخرق في غزة يوميًا دون عقاب.
ولذلك فإن غزة، رغم أنها الضحية، هي من تدين العالم، وتكشف كيف يمكن أن تُقتل أمة بالكامل دون أن يُحرّك ذلك مجلس الأمن، أو يقاطع أحدٌ المجرم، أو تُفرَض عليه عقوبة واحدة.
رابعًا: إلى متى؟
إلى أن يتغير واحد من اثنين:
إما أن تكفّ غزة عن المقاومة،
فتنتهي المجازر… لكن بثمن الخضوع، وموت الكرامة.
أو أن يتغير ميزان العالم،
فيصبح قتل الفلسطيني جريمة لا تمر، ويصبح الصمت عنها فضيحة لا تُغتفر.
حتى الآن، لا شيء تغيّر.
بل إن كل دم فلسطيني يُراق، يُقابله ترقية للقاتل، وابتسامة في واشنطن، وصمت في العواصم.
خامسًا: هل حقًا تموت غزة بلا شهود؟
ليس تمامًا.
هناك من يرصد، ويوثق، ويشهد.
هناك كاميرات الأطفال، ومذكرات تحت الأنقاض، وصور الجثث الصغيرة وهي تحاكم التاريخ بالصمت.
وهناك الملايين من الأحرار في العالم، وإن كانت أصواتهم خافتة أمام صخب السلاح، إلا أنها تسجّل في دفاتر الشعوب، لا دفاتر الحكومات.
غزة لا تموت وحدها تمامًا… لكنها تُترَك لتُقتل بلا حماية، وهذا بحد ذاته وصمة في جبين هذا العصر.
الخاتمة
أن تموت غزة وحدها، ليس فقط عارًا سياسيًا… بل فشلًا أخلاقيًا عالميًا.
وكل ساعة تمرّ على المجازر دون ردّ، هي ساعة يسقط فيها وهم "العدالة الدولية"، وتُفضح معها الحضارة الحديثة حين تعجز عن حماية أبسط حقوق الإنسان: أن لا يُذبح وهو حيّ.
لكن غزة، رغم وحدتها، لا تسقط.
لأنها تعرف أن قوتها الوحيدة هي أنها لا تكذب، ولا تزوّر، ولا تخون.
وهذا وحده، كفيل أن يجعل موتها حياةً طويلة في ذاكرة الشرفاء.