
غزة لم تكن مجرّد ساحة قتال، بل اختبارًا فاصلًا للضمير الإنساني العالمي.
اختبارًا لسؤال جوهري:
هل هناك بشرٌ يستحقون التعاطف… وآخرون لا؟
هل لا تزال "الإنسانية" مبدأ عالميًا، أم أصبحت شعارًا انتقائيًا تُعلّقه الدول في المؤتمرات وتدوسه في الميدان؟
أولًا: ما الذي يجعل ما يجري في غزة غير مسبوق؟
ليست هذه أول حرب على غزة، لكنها هذه المرة كشفت درجة جديدة من الانحطاط:
- قتل جماعي متعمّد للأطفال
- حصار شامل يجمع بين الجوع، والعطش، والبرد، والقصف
- تشويه إعلامي يبرر كل شيء بوصفه "دفاعًا عن النفس"
- صمتٌ غربي رسمي، بل وتواطؤ مفضوح مع الجريمة
ما يجعل المجازر غير مسبوقة ليس عدد القتلى فقط، بل العلانية والقبول العالمي المخزي بها، وكأن هذا الشعب خرج من دائرة الاستحقاق الأخلاقي.
ثانيًا: كيف سقط الضمير الإنساني في غزة؟
الضمير العالمي لم يُقتل، بل أُخضِع للفلترة:
- يُمنح للاوكراني الأبيض، ويُمنع عن الفلسطيني الأسمر.
- يُثار لأجل أنثى أوروبية، ويصمت أمام آلاف الجثث في مدارس الأونروا.
- يتحرك أمام صورة قطة متألمة، ويتجاهل عشرات الأطفال تحت الركام.
إنه ليس "مواتًا" بل انتقائيًا ومُختَطفًا، تُعيد هندسته القوى الكبرى وفق مصالحها، فيُغض الطرف عن الجريمة حين يكون القاتل حليفًا، وتُهوَّل الأخطاء حين يكون الضحية من دول الجنوب.
ثالثًا: ما الذي كشفه هذا السقوط الأخلاقي؟
1. أن الإنسانية المعولمة كذبة
كل ما قيل عن "قيم إنسانية جامعة" سقط عند أول اختبار جدي.
لم يكن هناك "عالم حر"، بل عالم حرّ في قتل من لا صوت له.
2. أن القانون الدولي بلا أسنان
المحاكم التي تلاحق قادة أفريقيا وآسيا، تحوّلت أمام إسرائيل إلى صمّاء عمياء، بل تتلقى تقاريرها من الجلاد نفسه.
3. أن الإعلام العالمي جزء من المشكلة
بدل أن يكون كاشفًا للجريمة، صار شريكًا في تبريرها.
باصطلاحات خادعة: "اشتباكات"، "ضربات دقيقة"، "رد على إطلاق صواريخ"… يُعاد تشكيل الواقع بما يخدم المعتدي.
رابعًا: أين الضمير الشعبي إذًا؟
رغم تواطؤ الحكومات، ظهر في المقابل ضمير شعبي عالمي حيّ، خرج في شوارع لندن وواشنطن وباريس وبرلين.
لكن هذا الضمير:
- يُقمع في الإعلام
- ويُفصل عن مراكز القرار
- ويُتهم بـ"معاداة السامية" إن رفع صوته عاليًا
ومع ذلك، فهو الأمل الوحيد الباقي في استعادة ما يمكن من كرامة هذا العالم.
خامسًا: ما وظيفة المثقف الحر أمام هذا الانحدار؟
المثقف لم يعد ترفًا، بل شاهدًا أخلاقيًا على عصر من الزيف.
وظيفته اليوم أن:
- يفضح النفاق المتعمّد في خطاب "الإنسانية".
- يكشف آليات تطبيع القتل في الإعلام والسياسة.
- يُعيد تعريف الجريمة، والضحية، والعدالة.
السكوت عن هذا الانهيار، ليس حيادًا… بل تواطؤ.
الخاتمة
غزة لم تكن فقط جرحًا مفتوحًا في الجسد العربي، بل مرآة سوداء عكست عفن الضمير العالمي.
فحين تُقتل آلاف الأرواح دون محاسبة، وتمرّ المجازر كأنها تفصيل في صراع طويل، فإن هذا لا يعني أن غزة ضعيفة… بل أن الإنسانية مصابة بعطب بنيوي.
السؤال لم يعد فقط: من يقصف غزة؟
بل: من يبرّر ذلك؟ من يصمت؟ من يموّل؟ ومن يرى ولا يصرخ؟
ففي النهاية، لم تفضح غزة القتلة فقط، بل كلّ من قبل أن يعيش في عالم يقتل فيه البشر… ويُطلب منهم الصمت باسم "الواقعية".