
لكن الحقيقة أوسع، وأخطر.
فالحصار ليس فقط جغرافيًا، ولا فقط عسكريًا، بل هو منظومة مركّبة، تشارك فيها أطراف متعددة، وتتكامل عناصرها لخنق الحياة في غزة ببطء محسوب.
من الخطأ اختزال الحصار في مشهد معبر مغلق أو غارة جوية… فثمة حصار سياسي، اقتصادي، نفسي، إعلامي، وحتّى داخلي.
وهذا المقال يسعى لتفكيك هذا القيد المركّب، وكشف من يضع حلقاته، ومن يمده بالأوكسجين الخانق.
أولًا: الحصار الجغرافي… بين الاحتلال والتواطؤ
منذ عام 2007، وُضعت غزة داخل قفص حديدي ثلاثي الأبعاد:
- من الشمال والشرق والغرب: إسرائيل، التي تتحكم في البحر والسماء والمجال الإلكتروني، وتغلق المعابر وتحدد حتى ما يدخل من الدواء.
- من الجنوب: معبر رفح، الذي يُفتح ويُغلق وفق اعتبارات سياسية وأمنية، في مشهد يجعل الخروج من غزة حلمًا أكثر من كونه حقًا.
لكن الأخطر أن هذا الحصار لم يعد استثناءً، بل صار هو "الوضع الطبيعي" الذي قبل به العالم، وتكيّف معه كثير من العرب.
ثانيًا: الحصار الاقتصادي… خنقٌ ممنهج للكرامة
غزة ليست فقيرة بطبعها، بل أُفقرت عن عمد.
وذلك عبر:
- منع التصدير والاستيراد
- حظر دخول معدات البناء والإنتاج
- استهداف البنية التحتية مرارًا لإبقائها في حالة شلل دائم
- فرض عقوبات مالية وقيود مصرفية بالتنسيق مع الاحتلال
النتيجة:
اقتصاد هشّ يعتمد على المساعدات، وشعب عاجز عن الإنتاج، وكرامة تُشترى بكيس طحين.
ثالثًا: الحصار النفسي والإعلامي
لا يُحاصر الجسد فقط، بل الروح أيضًا.
غزة تُقدَّم للعالم في الإعلام الغربي إما:
- كـ"بؤرة إرهاب" يجب ردعها
- أو "مأساة دائمة" لا حل لها
وفي الحالتين، يُسلب من الفلسطيني صوته، وتُختصر حياته في لقطات دمار تُعرض ثم تُنسى.
حتى في الوعي العربي، يتم استهلاك غزة كخبر، لا كقضية.
ينتهي الاهتمام بانتهاء الغارات… وكأنّ الحياة فيها لا تستحق التأمل إلا حين تُذبح على الهواء.
رابعًا: الحصار الداخلي… حين يتحوّل الانقسام إلى قيد
من أخطر أشكال الحصار، هو ما يُمارَس من داخل الجسم الفلسطيني نفسه.
- الانقسام السياسي،
- النزاع على الشرعية،
- التوظيف الفصائلي للمعاناة،
- سياسات العقاب الجماعي التي مورست باسم "الخلاف السياسي"…
كل ذلك شكّل طوقًا إضافيًا حول غزة، جعلها رهينة تجاذبات، بدل أن تكون عنوانًا للوحدة والمواجهة.
فالمقاومة لا تُخنق بالصواريخ فقط، بل حين تُستنزف داخليًا، ويُترك المجتمع في حال من الانتظار الدائم، بلا أفق ولا مصالحة حقيقية.
خامسًا: من يشارك – فعليًا – في صناعة الحصار؟
1. الاحتلال الإسرائيلي
المسؤول الأول، ليس فقط لأنه يفرض الحصار بالقوة، بل لأنه ينسق مع أطراف أخرى لجعله دائمًا ومستقرًا.
2. الأنظمة العربية المتواطئة
التي تغلق المعابر، أو تبرر الإغلاق، أو تقبل به كواقع، دون أي تحرك جاد لرفعه.
3. السلطة الفلسطينية
التي مارست بدورها ضغوطًا اقتصادية على غزة في محطات مختلفة، تحت ذريعة الشرعية.
4. المنظمات الدولية الصامتة
التي توثق المعاناة دون أن تملك الشجاعة لكشف الجناة، أو أن تضغط بجدية لفك الحصار.
5. النخب الإعلامية والدينية والثقافية
التي صمتت، أو ضلّلت، أو سحبت صورة غزة من وجدان الأمة.
الخاتمة
الحصار ليس جدارًا فقط، بل نظامًا.
نظام يقوم على تواطؤ خارجي، وشلل داخلي، وصمت عربي، وتطبيع دولي.
ولذلك، لا يمكن كسره فقط بشحنة مساعدات، أو بقرار دولي خجول، أو حتى بجولة مقاومة… بل بكشف منظومته بالكامل.
غزة لا تحتاج فقط إلى معابر مفتوحة، بل إلى وعي مفتوح يرى كيف يُصنع الحصار، ومن يحرسه، ومن يستثمر فيه.
لأن أخطر ما في الحصار ليس أنه يقتل… بل أنه يُدار بحكمة الجريمة، وصمت الجوار، وخبث المصالح.