
السائح وشراء الحرية المؤقتة
السائح الحديث لا يزور البلدان لاكتشاف عمق ثقافتها أو دراسة تاريخها، بل للحصول على تجربة مصممة مسبقًا: شواطئ بيضاء، أسعار زهيدة، وحريات قد تكون محظورة في بلاده.
هذه التجربة مصنوعة بعناية: فنادق فخمة، أسواق "شعبية" معدّلة، ومناطق سياحية نظيفة، مع إخفاء مقصود لوجه الحياة اليومية الحقيقية. يغادر السائح مقتنعًا أنه "عرف" البلد، بينما كل ما رآه هو مسرحية سياحية محكمة الإخراج.
المستثمرون وحصاد الأرباح
غالبية الفنادق الكبرى، المنتجعات، خطوط الطيران، وشركات الرحلات البحرية، مملوكة لمستثمرين أجانب أو لنخب محلية مرتبطة بهم. كل ليلة في فندق عالمي هي تحويل مالي مباشر إلى مراكز رأس المال خارج البلد. حتى الأسواق والمطاعم السياحية الكبرى غالبًا تحت مظلة شركات مسجلة في الخارج، ما يجعل جزءًا كبيرًا من إنفاق السائح يخرج من الدورة الاقتصادية المحلية.
الدولة والضرائب الرمزية
الحكومات، في سباق جذب الاستثمار، تمنح إعفاءات ضريبية وتسهيلات واسعة، مما يقلل العائدات الفعلية. وما يدخل الخزينة غالبًا يُستثمر في تحسين الوجه السياحي بدل إصلاح الخلل البنيوي في الاقتصاد. الأخطر أن معظم الإحصائيات الرسمية تحسب "إجمالي الإنفاق السياحي" (Gross)، أي كل ما يدفعه السائح، دون حساب النفقات الحقيقية:
- أسعار المواد المستوردة التي تستهلكها الفنادق والمطاعم.
- أجور الشركات الأجنبية العاملة في القطاع.
- الأرباح المحولة إلى الخارج عبر الاستثمار الأجنبي المباشر.
النتيجة أن الدخل الصافي (Net) من السياحة قد يكون أقل بكثير من الأرقام الدعائية التي تُتداول.
السكان: جمهور بلا نصيب
يعمل السكان في وظائف موسمية منخفضة الأجر: نادل، منظف، سائق، مرشد. يحصلون على فتات من أرباح مليارية، بلا أمان وظيفي أو حماية اجتماعية. مع مرور الوقت، تصبح المجتمعات المحلية معتمدة كليًا على السياحة، لكن دون أن تمتلك مفاتيحها أو نصيبًا عادلًا من عوائدها.
الاقتصاد الهش والتسرب المالي
في كثير من الوجهات السياحية، تتسرب النسبة الأكبر من أموال السائح خارج البلد خلال أسابيع قليلة، إما عبر استيراد السلع والخدمات، أو عبر الأرباح المحولة للمستثمرين الأجانب. بعض الدراسات الدولية وجدت أن هذا التسرب قد يتجاوز 70% من الدخل السياحي المعلن.
هنا يظهر الخلل البنيوي: السياحة ليست اقتصادًا وطنيًا صافيًا، بل ممرًا عابرًا للأموال، يترك القليل خلفه ويأخذ معه الجزء الأكبر.
خاتمة
السياحة، في صورتها المعاصرة، ليست مشروعًا تنمويًا حقيقيًا، بل صناعة مصممة لخدمة رأس المال العابر للحدود. البلد يبدو غنيًا في الصور، فقيرًا في الواقع، والسكان يتحولون إلى ممثلين في عرض لا يملكون نصه ولا عوائده. وفي حين يصفق السائح لنفسه وهو يغادر، تبقى الدورة المالية تدور بين المستثمرين والحكومات، بينما يظل الشعب متفرجًا في مقاعد الدرجة الثالثة.
سلسلة: الاقتصاد السياحي.. الوجه المخفي للصناعة العالمية للسفر والسياحة