
لكن في عمق المشهد، نحن أمام لحظة فارقة في التاريخ السياسي الحديث، تُعلن نهاية نموذج الدولة كما عرفناه، وبداية نظام جديد تحكمه الخوارزميات والاحتكارات الرقمية لا الشعوب.
فهل حزب ماسك مجرّد حركة احتجاج على النظام؟ أم أنه واجهة ناعمة لتمكين دولة أخرى تتشكل خلف الشاشات: دولة لا تُنتخب، ولا تُحاسب، ولا تعترف بالحدود أو القانون؟
المشهد المزيّف: الثورة من داخل المؤسسة
ماسك لا يدخل السياسة كمنشق، بل كمن صُنع في قلب المنظومة:
- تلقّى مليارات من وزارة الدفاع والطاقة والنقل.
- عقد شراكات استراتيجية مع البنتاغون ووكالات الفضاء.
- استُخدمت أقمار Starlink كذراع عسكرية رقمية في الحرب الأوكرانية.
- اشترى منصة X (تويتر سابقًا) ليحتكر "الرأي العام".
فأين التمرّد فيمن يملك أدوات الدولة ويموّله النظام نفسه؟
إنه تمرد مُرخّص... أو بالأحرى مسرحية تمرد تؤدي وظيفة استبدال الشكل دون المساس بجوهر السيطرة.
من الدولة العميقة إلى الدولة الذكية
لا يمثل ماسك خروجًا عن النظام، بل تطوّرًا عضويًا له.
الدولة العميقة لم تختفِ… بل تتسلّل عبر واجهات تقنية، وتتحوّل من جهاز بيروقراطي إلى تطبيق ذكي.
وهكذا، يصبح الزعيم الجديد:
- رجلًا لا يُحاسب عبر البرلمان، بل يُتابَع عبر X.
- لا ينتمي إلى حزب، بل يدير خوارزميات الرأي العام.
- لا يحكم دستورًا، بل يفرض "شروط استخدام" مطوّلة، تُحدّث دوريًا.
إنه نموذج السلطة بدون دولة، والحكم بدون تمثيل، والطاعة بدون إدراك.
وهم العبقرية الفردية: حين يُصنع الرمز
السردية الإعلامية تُقدّم ماسك كعبقري شجاع كسر القيود وابتكر مستقبله.
لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا:
- تم ضَخّ مئات المقالات والأفلام والاقتباسات لبناء صورته.
- رُوّج له كمخلّص جديد في زمن الشك بالسياسيين.
- صُنع رمزًا ما بعد حداثي: لا يُجادَل بل يُتابَع، لا يُنتخَب بل يُتبنّى.
ليس ماسك "نابغة تمرّد"... بل منتَج ناعم لمنظومة ترى أن الزعيم القادم يجب أن يأتي من وادي السيليكون، لا من صناديق الاقتراع.
تفكيك الدولة: من المواطن إلى المستخدم
مشروع حزب "أمريكا" لا يسعى لإصلاح النظام… بل لتجاوزه إلى شكل جديد من "الدولة الذكية"، حيث:
- المواطن لم يعد كائنًا سياسيًا، بل "مستخدمًا" تراقبه المنصة.
- السيادة لم تعد وطنية، بل رقمية موزعة على سحابات التخزين.
- القانون لم يعد عقدًا اجتماعيًا، بل "Terms of Service".
- الحوكمة لم تعد ديمقراطية، بل حسابية، خوارزمية، متغيرة بتحديث النظام.
إنه عصر الطاعة الناعمة داخل قفص ذكي… لا تصرخ لأنك لا ترى القيود.
مستقبل مرعب: عندما تُستبدل الدولة بشركة
إذا نجح حزب ماسك، فذلك لا يعني فوزه في الانتخابات، بل نجاحه في تصدير نموذج حكم جديد:
لا يحتاج إلى البرلمان، لأنه يملك جمهورًا مباشرًا.
لا يخضع للقانون، لأنه يسيطر على البنية التحتية التي يكتب القانون فوقها.
لا يُعارَض من الإعلام، لأنه يملكه أو يُعطّله.
هنا يصبح "الديمقراطي" من يوافق على شروط استخدام المنصة.
و"المعارض" من يُحظر أو يُسجَّل نشاطه للمراجعة.
الخلاصة: هل نحن أمام نهاية الدولة الحديثة؟
صعود إيلون ماسك سياسيًا هو عرض خارجي لتحوّل داخلي في بنية السلطة العالمية.
لم تعد الدولة جهازًا للحكم العام... بل واجهة استُبدلت تدريجيًا بمنصّة ذكية تدير البشر كبيانات وسلوك.
وحين يُصبح الحاكم هو من يملك الكابل، والخوارزمية، والبنية التحتية للعقل الجماعي...
فقد لا يبقى شيء من "الدولة" إلا عَلَمها… ومن "الشعب" إلا إشعارات موافقة.