الخوف الحنون: كيف تتحول السلطة إلى أمّ قاسية؟

ليست كل الطغيان عارمًا، بعضه يتخفّى في هيئة أمٍّ حنونة، تخنق أبناءها بحجّة الحماية.

حين تقول السلطة إنها "تعرف مصلحتنا أكثر منّا"، وتضرب باسم الأمان، وتخنق باسم الاستقرار، وتخيفنا بحنان مصطنع… نكون أمام نموذج خبيث من القمع العاطفي: السلطة الأمومية المتسلّطة.

هذه ليست علاقة عقدية فقط، بل علاقة عاطفية معقّدة تُربّى الشعوب عليها حتى تُصدّق أن الخوف من السلطة نوع من الطمأنينة.

سلطة تقتل وتعتذر باسم المحبة

في مجتمعات القهر المتوارث، لا تُقدَّم السلطة كآلة صلبة، بل تُقدَّم ككيان عطوف:

  • تُعنّف الناس باسم "مصلحتهم"
  • تُراقبهم باسم "الحرص"
  • تُسكِتهم باسم "الخوف عليهم"

فيصبح القمع أشبه بـ"العقاب التربوي"، والخطاب السلطوي كأنه نصيحة أمّ لأبنائها المشاغبين.
وهكذا تُختطف العاطفة، ويُغسل الوعي، وتتحول شعوبٌ بأكملها إلى أطفال يخافون من مغادرة حضن القامع.

لماذا يحبّ المضطهدون آباءهم القساة؟

الإنسان، حين يُولد في الخوف، لا يعرف ما سواه.
وحين تُلقَّن الشعوب بأن كل بديل هو فوضى، وكل نقد هو تهديد، فإنها تُطوّر علاقة مرضية مع القامع، تشبه تلك العلاقة بين الطفل والوالد العنيف:

  • لا يستطيع الفرار
  • ولا يملك الحماية
  • فيُحبّه بدافع النجاة، لا العاطفة

وهكذا تُبنى علاقة الأمة بالسلطة: ليست قائمة على العقد، بل على الخوف المغلّف بالحماية.

الدولة الأم: لماذا تبدو الطاعة حبًا؟

حين تُكرّر السلطة خطاب "أننا نحميكم من أنفسكم"، وتفرض قوانينها بصيغة النصح الأبوي، فإن الشعوب تبدأ بالتعامل مع الدولة كما تتعامل مع الأهل:

  • تشكو منها في الخفاء
  • وتخاف منها علنًا
  • وتبرّر قسوتها بأنها "مضطرة"

وفي هذه الحالة، يصبح التمرّد أشبه بالعقوق، ويُنظر إلى المعارضة كخيانة عائلية، لا موقف سياسي.
وهنا تتشوّه السياسة وتتحوّل إلى أُسرة مريضة، لا دولة حقيقية.

نتائج هذه المتلازمة: أمة بلا بلوغ سياسي

حين تبقى العلاقة بين الشعب والسلطة في قالب أمومي خانق، فإن النتيجة هي:

  • شعوب لا تبلغ سنّ الرشد السياسي
  • لا تعرف كيف تحاسب
  • ولا كيف تطالب
  • ولا كيف تثق بنفسها خارج ظلّ الدولة

فتسقط فكرة المواطنة، ويُعاد تشكيل الشعور العام ليكون دائم الحاجة لـ"حضن" السلطة، حتى لو كان هذا الحضن سُمًّا بطيئًا.

تفكيك الخوف الحنون: بداية الحرية

لا حرية بدون قطع الحبل السري العاطفي مع السلطة.
أن نفهم أن الدولة ليست أمًا، ولا أبًا، ولا إلهًا.
أنها عقد بين طرفين، لا وصاية على أمة قاصرة.
وأن من يحبك حقًا، لا يُرهبك ليحميك، بل يحترم عقلك وإرادتك.

التحرر يبدأ من العقل، لكن لا يكتمل دون تحرر الوجدان.

خاتمة:

أخطر أنواع الطغيان، ذاك الذي يربّينا على أن الخوف عناية، وأن الطاعة محبة، وأن الاعتراض خيانة.
وإذا أردنا أن نبني شعوبًا ناضجة، فلا بد أن نكسر هذا النموذج.
أن نغادر تلك "الأم القاسية" التي لم تحتضننا يومًا، بل أمسكت برقابنا كي لا نضيع خارجها.

الحرية ليست خروجًا من حضنها فقط…
بل قرارٌ بألا نعود إليه مهما أرعبونا بالبرد.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.